على طريق بعيد


ـ إلى الشهيدين حسين حمدان وعبدالله سليم  
وجميع الذين استشهدوا من أجل وطن حقيقي. 
ـ ـ  

(بئس أمّة)  
عندما تقفُ عاجزاً دون قُدْرةٍ على فِعْلِ شيئ يتثاءبُ في داخلكَ رَحمٌ عاقر، وتشعرُ أنّ الأيّامَ يرفعُها سيّاف. تقتحمُكَ الدقائقُ والثواني مثل الإبر تنخرُ عظامَ جسمِك المُتعَبِ من هولِ الصمتِ والعجزِ وقِصَرِ اليد، وستعرف أنّكَ عند أعتاب زمن مُتكرِّر، مُظلم، نازل من منخريّ متشعوذ، أنّكَ مُحاصَر بصحراء تدعوكَ كثبانُها إلى التضاؤلِ والغرق.    
وحدها الأنيابُ في الشوارع تتربّصُ بذي الضميرِ الحيّ، بالذين كانوا عندما كان للكلمةِ معنى، وللعقلِ تقديرٌ واحترام. وحدها الأنيابُ لها حقّ السيادة. تتقّنُ فنَّ طأطأةِ الرأسِ والتمسّحِ بأذيالِ الأقوياءِ وتقبيلِ الأيدي واللِحى والسيرِ في مواكبِ الأذلّاء.   
في الزمنِ الذي تغيبُ معالمُه يتلبّسُ عفنَ عصورِ القهرِ والخنوع، تستلبُه أرواحُ المقابرِ الدارسة ومتاحفُ التاريخ، لا مكانَ للإنسان كقيمة ولا إجتماع ولا تطوّر ولا حضارة ولا إرادة ويقبعُ العقلُ صامتاً في زاوية وتُنحَرُ كلّ المفاهيم التي تحاولُ مُلكاً في عالمِ الرؤيةِ ماضياً، حاضراً ومستقبلاً، تؤسّسُ لغدٍ أفضل لا قضبان فيه، لا سيّافين أو جلاوزة، ويصيرُ العقلُ عنوان شقاء يتبعُه الغاوون والكفّارُ بنعمةِ الصمت، ويصيرُ آفّةً يقتربُ منها من هو بلا عقل، والعاقلُ هو فقط الذي يحملُ صكَّ براءته من أيِّ منطق، من أيِّ واقع، وأيِّ معرفة، ويمشي مثل الساهمة إلى لا حول ولا قوّة إلاّ بالسحرة والمشعوذين ومن فيهم مسّ والسلاطين ومن لا يرون العالمَ يتنفّس إلاّ من خياشيمهم ولا يرى إلاّ بعيونِهم الجشعة.  
من أين للجهلِ هذا الحضور الذرّي؟. من أين للقهرِ هذه القدرة على كمِّ الأفواه وافتراضِ ما لا يُفترض ومقارعةِ كلِّ جديد مهما كان مقنِعاً وضروريّاً؟. من أين للظلاميّةِ بُدعةُ الكياسةِ لاختراقِ الكلمةِ وتفجيرِها من الداخلِ ودوسِها بالأقدام؟، من أين لها قوّةُ التنفّسِ مع مساماتِ جلودِنا والسكن في عيوننا وسملها ومسخنا قروداً ووحوشاً تحتكرُ مزيّةَ التدميرِ والقتلِ والإبادةِ المنظّمة؟.  
كذلك معظم تاريخِنا الذي مضى، وكذلك حاضرُنا الذي أفردَ عقلَه كبعيرٍ أجرب، وصدقَ العظيم بريخت حين قال: "بئس أمّة ليس فيها أبطال".  


 (آدمُ السماء وآدمُ الأرض)  
أنا مَن فقدَ نعمةَ الدهشة   
الأشياءُ تُستعاد، لم تعد ذكرى  
معَ أوّل تفتّحِ زهرة 
معَ أوّلِ هبوبِ نسيم وتساقطِ غيث  
وأجزمُ، وهذا يُحزنُني  
ليس لأنّ الأشياء ظلّلَها النسيان 
وصارت باهتة  
لكن لأنّي كالآلهةِ صرتُ أعرفُ  
صرتُ أكره، وصرتُ آدمَ الأرضِ 
فاندهشْ يا صديقي 
انتشلْ سؤالاً، ارسمْه على وجهِك  
لأنّكَ أوّل عهدِكَ بالساقطين   
أوّل عهدكَ بكيدِهم  
ولأنّك آدم السماء وأنا آدم الأرض 
هل أتاك حديثُ الأنياب 
تمزّق في كفِّك الكبيرة؟  
هل أتاك حديثُ القرصان 
يحسُّ العافيةَ في سحنتِه المتحفِّزة 
لاقتناصِ الفرص؟  
هل أتاك حديثُ من لا قرارَ لأطماعِهم 
ويرغبون بدفنِ الشمس في دورِهم الكبيرة؟  
هل أتاك حديثُ اللات 
تخرُّ لها حتى ذقنِك لتغفرَ لك  
وهُبَل تشتعلُ جمرتا عينيه 
ثمّ تبتردان بماءِ الخوفِ من جبينِك 
حتى يرضى؟ 

سرُّ الدهشةِ ماتَ في عينيّ 
ولكن حسبي أنّ العالم يتغيّر. 

 (الأرضُ لك) 
"للطوائفيين مكانٌ ينامون فيه فأين ننامُ نحن"؟. 
ـ منقول.

في يومٍ مضى كنتَ المدى، 
كنتَ النهرَ، السواقي، دفءَ التلاقي، 
الحبَّ الذي يمّمتْ شطرَه وجوهُ الأحبّة، 
الأملَ المرتجى لحياةٍ لا سيّد فيها ولا مسود 
ولا مَن ينعقُ باقترابِ الأذى في دنيا المظالم. 

هكذا كنتَ، هكذا أنتَ، وهكذا القلبُ أرحب من سماء، 
لا يعرفُ معنى لاختلافِ البشر إلاّ أنّهم كلّهم بشر، 
ولا يعرفُ معنى للحدود 
إلاّ أنّها غير ملزِمة لعالَمٍ أوسع من طموحِ فردٍ أو جماعة.  
هكذا كنتَ، وهكذا أنت. 
اصبرْ إذا مسّ العالمَ جنون، 
إذا ضاقتِ الأحداق وانتشرَ الحقدُ في زمنِ الطوائف. 
"اصبرْ إذا رجموك لأنّك الشجر مثقَل بالثمر. 
اصبرْ لوحشةِ الطريق وقلّةِ الزادِ والصديق".  

يا مَن كنتَ الحلم أكبر مِن حقدِهم، 
يا مَن كنتَ الأمل أقوى مِن ليلِهم، 
يا مَن كنتَ الشعلةَ وكانوا العناكب والأفاعي 
وأبناءَ الشياطين، 
الأرضُ لك ولن يرثَها المفسدون.  


(للشفتين اليابستين) 
مثل نبيّ 
رماهُ أهلُه بالجنون 
ورجموهُ بالحجارة، 
كان صامتاً. 

مثل نبيّ 
جاءَه الوحي 
وعرفَ أنّها مرارة التجربة، 
كان صابراً. 

مثل نبيّ 
آمنَ برحمةِ السماء 
ولن تتخلّى عنه، 
كان آملاً. 

هكذا عرفتُه، 
يتذكّرُ كأنّه في زاوية، 
وجهُه شاحب، يغمرُه ظلام، 
تتكسّرُ عيناه، يتأوّه، يصبر، 
ويرفعُ يديه من أجلِ قطرةِ ماء 
للشفتين اليابستين. 

كيف تهاوت جموعٌ 
مثل أوراق يابسة في خريف 
عاصف؟.   

(ذئاب) 
لإولئك الذين يستشعرون فجأةً تخمةً خصائص منطبعة في عيونٍ جاحظة رعباً من أمسٍ قريب تنعكسُ على صفحات وجوهِهم تأريخاً لأرقٍ لازمَهم  تحيّناً لفرصةٍ مثل القططِ الوحشيّةِ تخلّصاً مِن سوءِ الطالع، ومن خصائصهم الشكُّ بكلِّ ما يحيطُ بهم، وبكلِّ القيمِ النبيلةِ التي يعتبرونَها ملازمة للعاجزين. ولذلك هم في مجتمعٍ ـ غابة، يُحاكون تجربةً عاشوها مع حديثي نعمة من أمثالِهم، نشبوا أظافرَهم في وجوه الناس، اندسّوا بينهم يوسعونهم عضّاً، وأعذارُهم فلسفتُهم التي ورثوها: "القويُّ يأكلُ الضعيف"، "لا تُؤخذُ الدنيا إلاّ غلابا"، "مَن لا يطأ يُوطأ"، "مَن لا يظلم فلِعِلَّةٍ" و"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب". 
ما أقبح وجوههم المعفّرةِ بالوحل أولئك الذين تلمعُ عيونُهم لإكتشافِ الخِسّةِ في أنفسِهم الوضيعة. 


(زمنُ اللامعقول)    
العقلُ يغيب، 
وحين نتوسّمُ عودتَه 
يُمدِّد فتطولُ إجازتُه وتطول. 
القيودُ من بدعِ القبائل، 
من بدعِ الطوائف والمذاهب 
التي تضغطُ في هجيرِ الصحراءِ 
لسنواتٍ ليس فيها إلاّ رمال 
وثعابين تنتصبُ كأنّها قَشّ خلاص 
يتوهّمُهُ الطيرُ المتعَب.  
هذه الحربُ هي حربٌ 
ينهشُ فيها الفقراءُ الفقراءَ، 
من ذا الذي شرّعَ ويشرِّع 
للحروبِ بين الفقراء؟. 
هي إمعانُ المشرّدين في التشرّد، 
مَن زيّن للمشرّدين دروبَ التشرّد؟. 
عجائب في زمنِ العجائب، 
في زمنِ اغتيالِ العقلِ 
وتَقاتُلِ الجياع في حضرةِ البطونِ الممتلئة 
وأسودِ منابرِ الجماجم. 
لا يهمُّ مَن تكون الضحيّة، 
لا يهمُّ عددُ الضحايا، 
لا يهمُّ عددُ العيون التي ستدمع، 
عددُ الأمّهات اللواتي سيتّشحن بالسواد، 
ما دمنا اعتدنا الساديّةَ فينا. 
صديقي المُهان، 
عدوّك هو الجاثمُ على القلب. 
أيّها المشرّدُ تعلّمْ، لا تُطعن من الخلف مرّتين، 
إحفظْ وجوه أعدائك الحقيقيين.     
متى نعقل؟. متى نتعلّم؟. 
ومتى نقدحُ العقلَ في الزمن اللامعقول؟. 

(صبراً) 
 (إلى شهيد الفكر د. حسين مروّة) 
كان شجاعاً وكانوا جبناء، 
كان حرّاً وكانوا أذلاّء، كان ابنَ المدينةِ 
وكانوا مزيَّفين، 
كان عنوان ثقافتِنا وتاريخَ أسمائنا، 
فقتلوه.       
عبيدُ الذهب، بطانةُ السلطان، 
يتخفّون لصوصاً. 
أفزعَ أبناءَ الأفاعي أن تفضحَهم عيناهُ الجريئتان، 
فقتلوه.    
كتبَ بحبرِ القلب عن ثورةِ الزنج، 
هدهدتْه أحلامُ القرامطة، 
أحلامُ الفلاّحين الفقراء، 
ونذرَ عمرَه  للوطنِ الآتي على مهرٍ أبيض، 
فقتلوه. 
أيّتها المدينة 
التي ودّعتْ قلبَها 
حين افتقدتْ روحَه، 
التي خسرتْ أجمل عينيها 
عندما غدرَ به الظلاميّون، 
أيّتها المدينةُ 
التي يدنّسُ الطوائفيّون أطرافَ ثوبِها بأحقادِهم، 
تجمّلي، وقولي صبراً حتى مطلعِ الفجر.  

(ليلٌ وذئاب)  
الكتابةُ عن شهداءِ الخبزِ والكلمة دموعٌ تنهمر على الرجالِ الرجال من مآقٍ قيّحَها الأملُ باشتعالِ غياضِ الورد في جنائن الغد. 
الحزنُ العملاقُ الذي تطلقُه أمٌّ غدتْ أمّةً مكلومةً منذ قدومِ أوّلِ مستعمرٍ قذفتْهُ رياحُ الجشعِ إلى آخرِ مسخٍ ظلاميّ ورثَ كلَّ حقاراتِ أنظمةِ الذلّ وصارَ مثالاً لانحطاطِ مرحلةٍ بكاملها تجتاحُ بلاداً لا تبعثها إلاّ ثورة تعيد للمرجِ خضرته وللزيتون غصنَه الأخضر ومعانيه.  
استشهادُ المفكّر مهدي عامل تأكيد أنّ أعداءَ العِلمِ والإنفتاحِ الإنسانيّ يُبعثون مومياءات من قبور ليعيدوا تشكيلَ العالم على هيئاتهم، يتقدّمون كأصنامٍ حجريّة تحطّمُ كلَّ شيئ ليس فيه من صقيعها الأزلي، تدوس كلَّ شيئ ليس فيه من ظلامِها وقسوتها، ليس فيه من عفنِها الذي أودعه التاريخُ مزابلَه منذ أزمنة.  
فما معنى إغتيال مفكِّرٍ التزمَ جانبَ الواقعيّة والجدليّة في المعرفةِ ودراسةِ التاريخ؟. 
ما معنى اغتيال مفكِّرٍ انتصرَ للعقلِ؟. 
ما معني اغتيال مفكِّرٍ نذرَ عمرَه لأمّةٍ ناشدها النهوض؟. 
ما معنى اغتيال مفكّرٍ عرفَ الظلمَ من عينِ الفقير قبلَ أن يعرفَه مِن بطونِ الكتب؟. 
ما معنى اغتيال مفكّر رفضَ أن يسايرَ حالةً عنوانها إجرام، ليل وذئاب، وأصرَّ على فطرتِه وحبِّه الأوّل، على عشقِه للأرض، الوطن والإنسان؟. 
ما معنى أن تُذبح الثقافةُ في كربلاءِ القرن العشرين؟. 

حقدُهم يصيبُ وجه المدينة، يطالُ ظلامُهم صفاءَ عينيها، متى ستكون صيحةُ غضب؟. 
 
(حنظلة)   
أقدمتْ قوى الجهالةِ، بعد اغتيال المفكّر حسين مروّة والمفكّر حسن حمدان، على ارتكابِ جريمة بإطلاقِ النار من كاتم صوت على رسّامِ الكاريكاتور الأشهر في العالم العربي  ناجي العلي، أصابتْهُ في لندن ـ بريطانيا ـ شهيداً، تاركاً ذكرى مناضل أحبَّ الحياة فاستكثروا عليه إنساناً يحبّ، استنصر للضعفاء فاغتاظوا، وتجرّأ على الجاهلين فقتلوه.  
ناجي العلي، "حنظلة"، فلسطينيّ، حملَ أوزارَ غيره منذ مولده، تربّى في حواري وأزقّةِ مخيّمات لاجئي لبنان، عايشَ رحلةَ الشتات بكلِّ ويلاتِها وأحداثِها الكبرى، وعندما تركَ مجبَرَاً دارَ صحيفةِ السفير في بيروت لم يجد أرضاً عربيّةً واحدة تستقبله، تابعَ مكسوراً نحو أرضِ وعد بلفور التي شهدتْ فيضَ روحه. 
أعداءُ الإنسان يصرّون على غيِّهم. تمتدُّ يدُ الظلام لتطفئَ شمعة. ينزفُ جرحٌ وليس من يضمِّدُ جرحاً. 
ينكسرُ عَلَمٌ، تدمعُ عينٌ، ينتفضُ قلبٌ ويذوي جسد. 

 (السلام على المعلّم)   
الربيعُ ينهضُ فينا كلّما ذكرنا المعلّمَ كمال جنبلاط، يزدهرُ الحلمُ على عتباتِ الثورةِ والتغيير، هو المعلِّمُ القدوةُ، حبّةُ  القمحِ غاصتْ في التربةِ لتملأَ البيادرَ غلالاً، وتهبَ الرضى. كمال جنبلاط المدرسة، العِلمُ الذي تفتّح في مشاتلِ العزّةِ والكرامة من أجلِ لبنان واحد، سيّد، ديمقراطي، مستقلّ. 
ساءَهُ أن يرى المحسوبيّة تنمو مثل غدّة في أنحاءِ جسمِ الدولة، أن تستعرَّ الرشاوى، أن يقفَ الخرّيجون الجامعيّون عند أبوابِ زعاماتٍ ابتيعتْ بثلاثين فضّة، أن تُمتهن الكرامة في لبنان ـ الوطن، أن يتطاولَ أضأل الفاشست على الكلمة، وأيقن أنّ الأوطان يصنعُها الرجالُ الرجال، أنّ رايةَ الموقف الحقّ يرفعُها الرأيُ الحقّ، أعلن مثالاً برنامجَاً جريئاً للإصلاح على اعتبار أنّه جسر ممكن إلى وطن لا إلى مزارع طائفيّة أو مذهبيّة تفقّسُ الخوفَ، الغبنَ، الحقدَ المتبادَل. 
افتقدنا كمال جنبلاط حين امتدّتْ إليه يدُ الغدر، كما في كلِّ 16 آذار نعمل معاً  لنحيا بالأمل ولنقرأَ الوصيّة: "لبنان وطن الجميع"، والعقَدُ النفسيّةُ أعجز مِن أن تطالَ الحقيقة. 
السلامُ على الرجل الذي حملَ صليبَه وصعد طريق الجلجلة. السلامُ على الرجل الذي لم يرهبْهُ بطشُ الخصوم، السلامُ على الرجل الذي أحبَّ ومنعوه بالرصاص. 

(وداعاً بالزغاريد)   
المناضلُ عبدالله سليم "أبو جميل" انتقلَ إلى مثواه الأخير عن ثلاثة وثلاثين عاماً. غيابٌ مبكّر لرمزٍ وطنيٍّ اختزنَ عظيمَ المفاجأة شدَّ الأصدقاءَ والصديقات إلى عدمِ التصديق. حضروا لإلقاءِ النظرةِ الأخيرة على الرجل  الذي ترجّلَ أخيراً عن فرسِه لوداعِه بأكاليل الورود ودموعِ الوفاء والزغاريد.  
عبدالله سليم، الفنّانُ، المثقّفُ الثوريّ، هاجرَ إلى أستراليا من لبنان قبل سبع عشرة سنة ليبدأَ مشواراً جديداً وفصلاً آخر من المعاناة بقلبٍ قُدَّ من جبالِ عاملة، بعزيمةٍ يعرفُها فلاّحو الجنوب اللبناني لتكتسبَ الأرضُ لونَ الخضرة وتتّخذَ الحياةُ شكلَها الأجمل. منذُ وطئتْ قدماه أرضَ أستراليا لاحظَ كثيرون مواهبَ الفتى الشابّ، استبشروا، أنشدَ لهم على عُودِه أغاني الثورة، قرأَ لهم فصولاً من "أجمل الأيّام هي تلك التي لم تأتِ بعد". 
هو أوّلُ من غنّى في سيدني للأجنحةِ: زياد الرحباني، سيّد درويش، الشيخ إمام، مارسيل خليفة. كان الثائرَ العاشق، الشعلةَ المنيرةَ لإبادةِ ظلمة أحاطتْ بكثيرين وحجبتْ عنهم رؤيةَ الوطن موحّداً.  
كان أبو جميل يردّد إذا قال عن الحقِّ وعن الظلم: "دولةُ الظلمِ ساعة ودولةَ العدل حقّاً إلى قيامِ الساعة". "زهرةُ الحبِّ أقوى". "عزيمةُ الثوّار أشدّ" من الأنظمةِ الديكتاتوريّةِ المتعفّنةِ في كلِّ بلادِ العرب. كان يردّد أنّ الذين يضحّون  أجسامهم جسور لكي تعبرَ الأجيالُ القادمة إلى وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد. 
عبدالله سليم، الكادرُ الطليعيّ، العلمانيّ بامتياز، كان يعرف كيف يشدّ إليه العقولَ المستنيرة، آمنَ بالإنسان أقدس الخلق، نافحَ عنه فقيراً في آسيا، مستغَلاًّ في أميركا اللاتينيّة، مستعبَداً في إفريقيا، فقيراً ومستغَلاً وذليلاً ومستعبَداً ومرميّاً في غياهبِ سجون أوطانِ الضادّ. 
آمن أبو جميل بوحدةِ الطبقةِ العاملة العالميّة، آمن بالوحدةِ العربيّة، بالثورةِ الفلسطينيّة، بلبنانَ الواحد السيّد الديمقراطيّ  حتى آخر قطرة في كأسِ عمرِه الصغير. 
ماتَ عبد الله سليم "أبو جميل"، أبحرَ مبكِراً إلى ميناء بعيد، رحلَ المثقّفُ المقاتل إلى أقصى خلوتِه، تركنا وحيدين نستذكرُ الشهامةَ، نذرفُ دمعةَ خسران، وتنهضُ في صدورِنا قلوبٌ أكبر. 
 
(قضاءُ القطط السمان)    
عندما دولةٌ متحضّرة تفترض أنّ هيبتَها تكمنُ في قدرتِها على فرضِ قوانينِها وسواسية ودون تفرقةٍ بين زيد وعمْر نجدُ أنّ الدولة المتخلّفة ترى العكس، ترى أنّ الحضارةَ أو المدنيّة هي في خضوعِ الشعب لأبناءِ "الذوات". زيدٌ غير عمْر فكيف المساواة بين سيّدٍ وعبد؟. وبالقياسِ، أحرى أن تسري القوانين على قومٍ دون غيرهم، أن تطالَ بسيفِها أبناءَ الطبقاتِ الشعبيّة، إذا تجاوزتْ سرّاً أو جهراً، أن تكون برداً وسلاماً على "البهاوات" ـ "أصحابِ العرقِ الطاهر"، لهذا يَقولُ القضاءُ بالموتِ شنقاً، تأكيداً لهيبةِ الدولةِ ـ السلطةِ. أمّا القططُ السمان فإنّها لها من نفوذِها المؤيَّد قدرة سحريّة لتبرئةِ ساحاتِها، وفي أسوأ حال عليها أن تدفع الديّة وكفى اللهُ المجرمين "شرَّ" العدالة. 
نشير هنا إلى المواطِنة سميحة عبد الحميد. ارتكبتْ جريمةَ قتلِ زوجِها، ومِن قدرِها السيئ أيضاً أن يُحكم عليها بالموتِ "شنقاً"، لأنّها من أبناءِ الشعبِ وليست من ذوي النفوذِ أو الجاهِ أو السطوة. ولا رثاءَ ها هنا للقاتلة سميحة عبد الحميد التي ربّما تُقاصَص بقوانين بلادِها، لكن لماذا يصدرُ حكمٌ بإعدامِها ولا يصدرُ حكمٌ بإعدامِ مقاولين ومهندسين فاسدين تسبّبوا بسقوطِ أبنيةٍ على رؤوسِ ساكنيها بمجازرَ جماعيّة؟، لماذا لا تكون أحكام بالموت على مَن يسمّمون الناس بالأطعمةِ الفاسدة من كلّ نوع؟، لماذا لا يصدرُ حكمٌ بإعدامِ الذين يدفعون ملايين الناس إلى مطاحن الجوعِ، الجهلِ والأمراض؟، لماذا يتجاهلُ القضاءُ جرائمَ الذين يجرّحون كرامةَ أُمَّة، الذين يقتلون روحَها تحت عينِ الشمس يوميّاً؟، أم حقّاً صدقَ الشاعرُ حين قال: "قتْلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتَفَر \ وقتْلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر"؟. 
سميحة عبد الحميد، ولأنّها غير محظوظة، أو لأنّها مواطِنة عاديّة، يطالُها القانون، لكن متى سيطالُ المحظوظين، أصحاب السعادةِ، العطوفةِ، الرئاسةِ، السموِّ، السيادة أو الجلالة؟. 

(جنوبُ إفريقيا ولبنان) 
تابو ندامينا، سائقُ التاكسي ـ جنوبي إفريقيا ـ قال أن العار هو أن يكون لونُك أسود، في بلد تحكمه العنصريّة، سيعني أن لا تدخل مطعماً محترماً يرتاده رجل أبيض، أن لا تدخل سينما أو مقهى يرتادُهما كائن أبِيض، أن تُعتصَرَ في المصانع إلى آخرِ قطرة، وإذا جاءَ المساءُ، فبالكاد ستتعرّفُ عليكَ زوجتُك، لأنّكَ ستكون من الإعياء أقرب إلى الموتى منك إلى الأحياء. 
ونحن معاشرُ داحس والغبراء، أو عبس وذبيان لبنان، مهما قالَ لنا ندامينا، ليس لنا إلاّ أن نتحسَّر، وذلك ببساطةٍ، لرحمةِ حالِه قياساً بقسوةِ حالنا، لرحابةِ زنزانتِه قياساً بوحشيّةِ غاباتنا. أين هول عذابه من هَوْلِ عذاباتِنا؟. 
مهما بلغَ السوءُ في جنوبِ إفريقيا هناك خطٌّ واضح يفصلُ بين إثنين، نحن عندنا في لبنان 17 خطّاً، تماماً بعددِ الطوائف، وما أسرع أن تنبثقَ خطوط تفصلُ بين أبناءِ كلِّ طائفة على حِدَة، وبين أبناء كلّ حزب على حِدة. 
البلادُ التي يُذكرُ فيها اللهُ كثيراً ويُقال: "أبانا الذي في السماء" عوض: "أيّها الأب الذي في السماء" تقديراً أنّ "أبانا" هو "أب البيض" دون "السود" يُهان الإنسانُ بسببٍ من سوادِ لونِه، أمّا في بلادِنا، في بلادِ الإشعاعِ الطائفيّ ـ الذرّي، موتاً تموت لأنّكَ مسلم، لأنّكَ مسيحي، لأنّك فقير ولأنّك ما شئت. 
في "جوهانزبرغ" قضيّةً يناضلُ من أجلها شعب يؤمنُ بالحريّة، أمّا في بيروت "أمّ الشرائع" أو أمّ الفضائح فالموتُ بالمجّان لكي ترضى طائفةٌ أو عائلة أو أي نصّاب. 
صديقي تابو ندامينا صبراً، وانظرْ إلى مصائبنا تهن مصائبك. 


(جسرُ مانديولاّ) 
وصلَ إلى جسرِ مانديولا، رأى مثلما في المنامٍ آلافاً من الفلاّحين، تخفقُ فوق رؤوسِهم راياتٌ بلونِ الشفق، تصدحُ حناجرُهم بأناشيد من رحمِ الأرض، وعلى جباهِهم خطوط عن الإصلاحِ الزراعيّ، عن الذين يزرعون ولا يأكلون، وحكايات لا تنتهي عن الإقطاعِ والمظالم، وكان في الجهةِ المواجهة عسكر الجنرال، هيئاتُهم كأنّما خرجوا للتوّ من مختبرات فرانكشتاين، عليها من أثرِ المباضع وفي العيون خواء. أياديهم موتٌ على هيئةِ سواطير وأسلحة رشّاشة. 
لم يشأ أن يتراجعَ في يومِ الإصطفافِ الجلي، الخيرُ كلّه في صفٍّ والشرّ  كلِّه في صفّ. لم يهن عليه أن يكون دون رجال الفيليبين تصميماً، لم يهن عليه أن يكون دونهم تعظيماً للحبِّ، للإنسان، للأرض. 
لا، لا أبشع من الموت ذليلاً، مستسلماً، ولا أروع من الحياة شاهراً قبضة بوجه مجرم. 

(إنّهم جميعنا) 
1 ـ 
وطني، 
إنّهم يتردّدون عليك 
في الليالي الحالكة 
لكي ينهبوا من لحمِك ودمِّك، 
لكي يستلُّوا من عينيك عناصر الضياء، 
ليصنعوا لهم أثواباً تنكّرية.  

وطني، 
إنّهم يقطّعون أطرافَك 
لأسواقِ النخاسةِ، 
يبكونَ مكراً 
تفضحُه دولتُهم الدمويّة 
ومقابرهم الجماعيّة.  

وطني، 
إنّهم أولئك 
الذين على رؤوسِهم "هُبَل"، 
بوجوهه الكثيرة، وكلّها مُذلّة، ساخرة 
من دموعِ الحفاة. 
إنّهم أولئكَ الذين فوق رؤوسِهم 
صاحبُ الألواحِ المسروقة، 
تحرسُه البنادقُ 
في مدينةِ السلام المفترَضة. 
أولئك الذين فوق رؤوسِهم مَن رأسُه 
أعلى من النجوم، 
لكي يطفئَ النجومَ في زنازين القهر 
وبأعقابِ البنادق. 
بيّاعُ الأعراضِ الأكبر، 
الخفي والمنظور في آن، 
له جوازاتُ سفرٍ لا تحصى، 
وفي جيوبِه قلوبٌ مسحوقة، 
وعيونٌ مسلومة، 
ودفاترُ حسابات وحوالات بنكيّة. 

وطني، 
إنّهم جميعنا، 
المصفِّقون، 
علفُ الموتِ بالمجّان، 
الغافلون عند المذبحة. 

2 ـ 
وطني، 
من أيّ الأبوابِ المخلّعةِ 
ندخلُ إليك؟. 
من أيّ الجراحِ 
المشرّعةِ على العاصفة؟. 
رِفقاً ولا تنكسرْ، 
لعينيكَ لون البحر فلا تنحسرْ. 
لكفُّكَ المثلوم عبقُ الحقولِ البعيدة. 

لا، لا ترحلْ في تيهِ الزمنِ الموحِل، 
لا ترحلْ في عقوقِ المدنِ المزيّفة. 
الجوعى يأوون إلى خبزِ يديك. 
نتوحّدُ فيك على شفا حدّ السيف. 
نتوحّدُ فيك على إسم الروحِ الكسيرة، 
على إسمِ الماءِ. 
أنتَ الأملُ الضائعُ 
في شعابِ العالَم. لا غيرك أوّل الغيث، 
لا غيرك أوّل الغيث، لا غيرك.   
 
3 ـ 
وطني، 
من أين لك أن تبحرَ نحو موتِك 
ولا تتعب؟. 
من أين لكَ أن تسافرَ بلا زاد 
ولا تموت؟. 
نحن لكَ عبثُ الأيّام، 
نحن لك حبّةُ القمح، 
ونحن لكَ وصمةُ عار، 
ونحن لك غضبُ الكرامة، 
ودمعة كبيرة على الخدِّ الأسيل. 
وطني، 
نسقيكَ من عيوننا 
ومن عزمِ زنودِنا. 
نحن أبناؤك، تظلّلنا سماؤك 
ونضلُّ بالحبِّ إليك.  

4 ـ 
لا، لا تحاكِ السرابَ 
في عيونِ مصّاصي الدماء، 
لا تتمسّكْ بحبالِ وعودِهم الكاذبة، 
يريدونك عشبة أو سمكة. 
وطني المنفيّ خلفَ أسلاكِ جراحِكَ النازفة، 
وطني المتسكِّع عند أبواب الجوامعِ أو الكنائس 
تسألُ رحمة "إيل" كسرةَ خبز، 
أيّها المسبيّ في مضارب قبائل الطوائف المتذابحة 
لا تصدّقْ غيرَ شراعِك ولا غيرَ نداءِ الجبال: 
"بإسمِ العمل والأمل". 
وطني، 
لا تصدّقْ 
غيرَ نسْغِ الحياةِ 
في عروقِكَ الجديدة. 
العسَسُ يؤلّفون طريقةً 
لكي يصلوا إلى دمِك، 
إلى يدِك الشريفة. 
والأفاعي ـ حرّاسُ الهيكلِ 
يجتمعون تقاسماً للغنيمةِ التي هي أنت، 
حذاري يا وطني من نهش الأفاعي، 
إنّه زمانُ الأفاعي، والمثقّفين المرائين، 
والتجّار في دورِ العبادة، 
جميعهم يصلّون شكراً لئلا تزولَ النِعم. 
حذاري يا وطني أن لا تكون أنت،  
موتاً نموت عندما ليس بعدُ 
غير صفيرِ الريح في القلوبِ الخاوية.   

(هيروشيما) 
تسقطُ الدمعةُ الأخيرةُ 
يذوي القلبُ، تنكسرُ الروحُ  
ومن خجلٍ تبحثُ عن ملجأ أخير 
في غابةٍ بعيدة 

هيروشيما 
وجهُ أمّي على أشلاءِ الضحايا  
قلْ خصلةُ شعرِها أحترقَت 
من وهْج الحضارة 
وقفْ دقيقةَ صمت..  
قلْ لكفِّ هيروشيما المعرَّقِ 
عربون وفاء وتاريخ بناء 
فأنكروها 
 
الحزنُ 
في شوارع هيروشيما  
وشهرُ آب عاماً بعد عام 
يرتابُ بتمثالِ الحريّة  
ترعبُه الإعلاناتُ الزائفة 
عن حقوقِ الإنسان  

أيّتها المدينة 
التي اجتاحتكِ عاصفةُ لهب  
أنتِ أقوى 
هيروشيما، أنتِ أقوى، 
و"أجملُ الأيام 
هي تلك التي لم تأتِ بعد".  
\
ـ أوراق نُشِرتْ في جريدةِ البيرق اللبنانيّة ـ العربيّة ـ الأستراليّة عام 1987 ضمن  زاوية بعنوان: "نافذة على البحر"، ونُشرت في كتاب سنة 1991 بعنوان: "على طريق بعيد" ـ دار الثقافة ـ سيدني).
Shawki1@optusnet.com.au