محور مائل




(محور مائل)
ـ شوقي مسلماني

وينحدر، ويفقد أكثر
ومرّاتٍ الحماقةُ فخرُ صناعة 
النباهةُ دونها مناعة
الطريقُ جلّها حظّ

يعلمُ ولا يعلم، يحلمُ ولا يحلم
يلمسُ ولا يلمس، يبتعدُ ولا يبتعد، يقفُ ولا يقف

أطوارٌ لكلِّ فصلٍ مِنَ الفصولِ الأربعة
طوْرُ الشتاءِ الريُّ، طورُ الربيعِ الخضرةُ 
طورُ الصيفِ الكرَمُ، طورُ الخريفِ التيه
 
ينتفضُ ولا ينتفض، يمرُّ ولا يمرّ 
تلالُ أكاذيب، تلالُ طائفيّة، تلالُ مذهبيّة
تلالُ شوفينيّة، وتلالُ خوف

في كلِّ اتّجاهٍ عابرُ سبيلٍ أو قاطعُ طريق
في كلِّ اتّجاهٍ عابرٌ مصلحٌ إجتماعيّ 
يائسٌ، باحثٌ، مستخفٌّ، متثاقل
صيّادُ فِرّ، صيّادُ سرغوس
قلِقٌ، ومِنَ الكلِّ:
يمامةٌ، نورسٌ، بطّةٌ، فلامنكو
سمرمر، وحيدُ القرنِ، تمساح 
ابنُ آوى، كوالا، أناكوندا، نعجة
ريمٌ، دينغو
 شجرةُ صفصاف، شجرةُ كينا
شجرةُ صنوبر، شجرةُ أرز، شجرةُ ملّولٍ أو أكاسيا
نعناعٌ، صعترٌ، رشاد
سمكةُ سلطان إبراهيم، أسدُ البحر
فيلُ البحر، حصانُ البحر
قنفذُ البحر 
بعوضة 
نملُ اللهب، نملٌ أبيض

وجهُه شفَقٌ، وجهٌه مخلبٌ 
وجهُه رجلٌ صالحٌ أو إمرأة صالح
وجهُه مُكُرٌ، وجهُه طيبةٌ، وجهُه ألم 

قطرةً قطرةً صارَ البحرُ 
وقطرةً قطرةً يجفُّ البحر. 
**

يقدرُ، يصعدُ، يُوهَبُ، يُسلَب، يَتخيَّرُ ولا يتخيَّر
شجونٌ يخطّها المطرُ فوقَ زجاجِ النافذة
كلُّ خطوةٍ أثر

لا يطفو، لا يرسخ 
يرحلُ، لا يرحلُ، يرجعُ، لا يرجع
بلادُه مجروحة، انكسارُ الكلِّ
ليس فيها بلاد، أحبّةٌ ليس لهم أحبّة
المكانُ الأقرب أقرب في الذاكرة
المكانُ الأبعد لا يريد أن يبتعد
حركةٌ تورِّث حركةً، شساعةٌ تورِّثُ شساعة
موتٌ يورِّث موتاً

الآخرُ في محلٍّ آخر
العقلُ رِقّة. 
**

لديه وجهةُ نظر وليستْ له جهة
لديه عادةٌ غير صحيّةٍ كثيراً شرّاً
لا يتمهّلُ
كثيرٌ غيابُه
أكثر ما التفتَ إلى أصنام
كان يفهم
ومع ذلك لا فهمَ ولا أفهموه.
**

حِكمةٌ هي أفق، كلُّ أفقٍ عالَم
كلُّ عالَمٍ مجرّة، يكرِّرُ أنّه أكثر ما يكون مطمئنّاً
فقط عندما يكون وحده
المفارقةُ أنّ الحدودَ لا حدودَ لها 
يخرجُ ـ يدخلُ، ويدخلُ ـ يخرج
الجَمالُ هو أن يُفسِح قلبٌ لقلب 
القلبُ شساعةٌ فيها زهور
شساعةٌ فيها أشواك، فيها
شجرُ جوز، وبندق، وسرو
الجَمالُ روحٌ تمسُّها روحٌ.. 
كلامٌ هذا الصمت؟ 
عيونٌ تَرى ولكن لا تسمع
آذانٌ تَسمع ولكن لا ترى
أكثر المسيرِ لا يصل، وأكثر النقلِ بلا عقل. 
**

كان بلا أثر
كان حيّاً ـ ميتاً.
**

يكرُّ، يفرُّ، حرٌّ 
يعلمُ، يجهلُ، يعملُ، يأمل 
المتردّدُ عاقِبتُه وخِيْمة
المتواني وخِيمةٌ عاقِبتُه 
المستعجلُ وخِيمةٌ عاقِبتُه 
الصمتُ الزائدُ عاقِبتُه وخِيمة 
عاقِبةُ الصبرِ الزائدِ وخِيمة 
رؤيةُ نصفِ الكأس وخِيمةٌ عاقِبتُها 
عاقِبةُ التشدّدِ وخِيمة
الغفلةُ عاقِبتُها وخِيمة 
عاقِبةُ الخيانةِ وخِيمة
المذهبيّةُ كثيرةٌ، العنصريّةُ كثيرة 
وكان الوحلُ كثير. 
**

ماذا تدبِّر؟
تدبّر بركاناً؟
تدبِّر زلزالاً؟
تدبِّر رصاصة؟
تدبِّر غرَقاً؟
تدبِّر اصطدامَ قطارين؟
منذُ البدء، تدبِّر.. مرّةً قرناً
تدبّر مرّةً مخلباً
وعندَ منعطفٍ لصٌّاً 
عندَ البنك لصّاً
وكانت معاكساتٌ
كانت سماءٌ قاسيةٌ، وأرضٌ قاحلة. 
**

الجودُ عنده، النخوةُ، الشهامةُ، افتداءُ الآخَر
الأنفةُ، الشجاعةُ، وهو في آنٍ سريعُ الغضبِ لأتفه سبب 
يشنُّ الغزوات، يقتل وينهب
كانت له أسواقُ نخاسة، كان منه صعاليك
يطلبون الحريّةَ غير منقوصة
لهم كلمة
مع قطّاعِ الطرقِ الحقيقيين. 
**

يهتمّ، لا يهتمّ، يحتمل، لا يحتمل 
يسعى، لا يسعى، له رأس، وليس له رأس
ذاته ذو الخناجر، ذاته ذو الأساسات
تُفسِحُ القِلّةُ للكثرةِ كي تكون ضربةُ منجلٍ واحدة 
رأى عواصفَ، أعاصيرَ، آثارَ أممٍ غابرة 
أمماً تئد أمماً، ما لا يُحصى
أنهارَ دمّ، سنابكَ، سهاماً
صواريخَ، نابالم، قنابل نوويّة وفراشات
رأى مَنْ يقول ومَنْ يصمت، رأى مَنْ يعقل ومَنْ يجهل 
رأى مَنْ يُحذِّر ومَنْ لا يعتبِر، رأى مَنْ يُدبِّر ومَنْ يتهوَّر
رأى الجريءَ والرائي والمقفَلَ المحاصَر
رأى حكماء بعضهم على أتان تتبعهم أمم
ولكنْ قلّما وصلوا
رأى حكماء بعضهم فاتح
لكنْ قلّما انتصروا
رأى الأرضَ المظلمة، وفي السماءِ.. قمراً. 
**

بعيدةٌ بلاد، جريحةٌ بلاد، وجهُهُ البلاد
في بلادٍ ظهرُه محنيّ، وفي بلادٍ رأسُه مرفوع
الصوتُ وازِنٌ، الموسيقى التصويريّةُ وازِنة 
الإسمُ أو العنوانُ وازِن
الصديقُ وازِن، الجديّةُ
التكاملُ ، والمسألةُ ليست في التشويق
هي في محلٍّ آخر
كيف يعمل؟ كيف يفكِّر؟ بماذا يحلم؟
ما حجم مسافتِه بالألم؟ 
رأسُه، في آن، رأسُ عصفور، رأسُ حيّة 
رأسُ بابون، رأسُ أتان،  رأسُ كبش
رأسُ ديناصور، رأسُ سلحفاة
رأسُ جبل، رأسُ حَمل، رأسُ نملة 
رأسُ صاروخ، رأسُ إبرة 
المسألةُ ما دام هذا الرأس هنا
حتماً له أسباب هي جزءٌ مِنَ التكوين 
وما دامتْ جزءاً مِنَ التكوين
يجب كي نفهمَ التكوين أن نفهمَها
يقولُ قائلٌ أنَّ للناسِ شؤونهم 
الحقيقةُ هي أنَّ السؤالَ يسبق
وهذا مِنَ البديهيّات
وفي آن ليس من البديهيّات
ليس كلّ بديهي بديهي
ماذا أن يُقال لا جوابَ قبل سؤال؟
السؤالُ سخاؤه لا ينضب
يبعثُ، ينطقُ، يعمِّرُ، يرفعُ
يزرعُ، يصنعُ 
هو أوّلُ مَنْ نزلَ ومنذُ آلاف السنين
على سطحِ القمر 
فيما الجواب يأتي ولو بعد حين. 
**

رأسٌ يذرفُ
المسألةُ ألاّ نقولَ "فاتَ الأوان"
الحديثُ عن مسألةِ حياةٍ أو موت
ليس بديهة
ليس الإزدحام عفويّاً، ليس الإعتداء عفويّاً، القهرُ ليس عفويّاً
المؤامرةُ ليست عفويّة، ليس الفقرُ عفويّاً
ليس الجوعُ والعطشُ والترمّد عفويّاً
الإزدحامُ له جُذور، الإعتداءُ له جُذور
جُذورٌ للمؤامرة
الفقرُ له جُذور، الجوعُ له جُذور، العطشُ له جُذور
جُذورٌ للإحتراقِ، جُذورٌ للترمّد
الإضمحلالُ له جُذور
للكلِّ. 
**

مِنَ الشرقِ جاء، مِنَ الغربِ جاء
مِنَ الجنوبِ جاء، مِنَ الشمال 
مِنْ شمالِ الشمال، مِنْ جنوبِ الجنوب
مِنْ ذاته
مِنَ الماءِ والبرقِ والرعد، مِنَ الجهةِ والجهةِ المعاكسة
مِنْ غربةٍ، مِنْ حصانِ إبليس، مِنْ براثن، مِنْ صخور 
كان يقولُ: إنّها تجارةٌ، سطْوٌ مسلّحٌ تمارسُه أمم 
أناسٌ أدمغتُهم عَلَقٌ، البعضُ تغازله الإمبرياليّة مِنْ تحت الطاولة
الرجعيّةُ، عندَ البعض: الشمسُ والقمر 
المفاجأةُ بقلّةِ الأمانة، المفاجأةَ بقلّةِ الشهامة
بكثرةِ الإرتداد
أن تنظرَ إلى النسر فينقلب إلى دجاجة 
أن تنظرَ إلى الحمل فينقلب إلى ذئب
أن تنظرَ إلى الأسد فإذ هو فأر
أن تنظرَ إلى الشجرةِ الخضراء فإذ هي يابسة
المفاجأةُ أنّه لا يزال يتفاجأ. 
**

مقارنةٌ بينه وبين القمر
كلاهما منير، لطيف وحالِم
مقارنةٌ بينه وبين النجمة
هي بعيدة وهو بعيد
مقارنةٌ بينه وبين البرقِ والرعد
يشرقط ويهدر مثلهما 
مقارنةٌ بينه وبين التمساح
معاً يشقِّفان الضحيّة
مقارنةٌ بينه وبين العقرب
العقربُ يلدغُ مثله
أذهله الشبه بالتفاصيل بينهما. 
**

الصعودُ أن ترفعَ رأسك
النظرةُ الحالمةُ موسيقى، الشمسُ المشرقةُ قبضتُك. 
**

قيلَ: "كلّما اشتدَّ الليلُ اشتدّ القمر"
"تعدو الذئابُ على مَن لا كلابَ له
وتتّقي صولةَ المستأسدِ الضاري"
و"لا تقهروا الإنسان" 
إنّها رحلةٌ طويلةٌ، ومؤسفة. 
**

بعضٌ ممّن فيه يعرف ولكنّه لا يصرّ
بعضٌ ممّن فيه يمشي موارِباً
بعضٌ غاضب، بعضٌ شجاع
بعضٌ يائس
بعضٌ أسأتُ إليه فأساء إليّ 
أنكرتُه فأنكرني، لم أنصره فلم ينصرني 
دائماً قديماً وحديثاً. 
**

ويبدو ثابتاً
لكنْه في الواقع يتحرِّك بأسلوبه، بغريزته
قيل: "حتى الكلاب إذا رأته يوماً عابراً 
نبحتْ عليه وكشّرتْ أنيابها" 
بعضُه أقبلَ مشرِقاً، وبعضُه آفلاً، معتِماً
بعضُه اختنقَ صوتُه، امّحى أثرُه، وها هو منه حجر
بعضُه وحده، وعلى مسافةِ مئات ملايين الأميال، مِن كوكبنا
يصطاد بقصبةٍ مِنْ ضوء تنهيدةً في النهرِ اليابس
بعضه عند قمّة جبل، ولكي يطلعَ الفجرُ مطمئنّاً.. يقف شامخاً كتمثال
شجرةَ تفّاحٍ سرقتْ تفّاحتَه الوحيدة. 
**

رأيتُه يرى المساحةَ الخضراء
رأيتُه يرى المساحةَ الرماديّة
رأيتُه لا يرى المساحة
رأيتُه تحتَ المساحة
رأيتُه يحرث ويبذر في المساحة
رأيتُه يحبُّ ويرى الزهورَ والورود
يصغي لشدوِ الطيور
عندَ المساحة
ورأيتُه هو الكلّ. 
**

يعبر مِنْ دون أن يلتفت مستغرِقاً
قبلَ آلافِ السنين نزلَ على سطحِ القمر
يومَ أوّل مرّةٍ نظرَ إلى السماء وأمعنَ النظر 
يومَها رأى أناساً آخرين، رأى غابات وطيوراً وبحيرات
وبحاراً وجبالاً شاهقة وأوديةً سحيقة وسهولاً ومروجاً وحقولاً
وبيوتاً وحُبّاً وحروباً وأمراضاً وآمالاً
وقردةً على أجناس، ودوابّاً مِنْ أجناس
وطيوراً مِنْ أجناس، وزواحف مِنْ أجناس
وبرمائيّات مِنْ أجناس، ومائيّات مِنْ أجناس، وفيروسات مِنْ أجناس
كان ينظر مليّاً ، وعندما لم يكن ينظر مليّاً كان يهبط
حوادثٌ تتكرَّرُ، يمضي واثقاً، يمضي متردِّداً
لا يريد أن يفهم، هو ذاته الغريب ويتساءل إذا يوجد غرباء؟ 
الفاتحُ أو الغازي، الغريبُ ذاته
يفكِّر على نحو منطقي، وعلى نحو غير منطقي
أوّلَ ما نزلَ على القمر قبلَ أحقابٍ بعيدة 
لمّا أوّلَ مرّةٍ استلقى قريباً مِنَ النار.
**

صوتُه مِنَ البعيد، صوتُه مِنَ القريب
مِنَ الحركةِ الظاهرةِ والحركةِ الباطنة
لا يأتي مِنْ فراغ، يأتي مِنَ الإحتراس
مِنْ أبراجٍ عالية، مِنْ مستوصفات ومستشفيات
مِنْ جنائن، مِنْ سفنٍ شراعيّة، مِنْ أجنحة 
مِنْ ببّغاء ينطق، مِنَ الصباح، مِنَ الظهيرة، مِنَ المساءِ والليل 
مِنَ الحيّزِ المرجاني، مِنْ جزيرةٍ 
يستريحُ فيها "ألباتروس" 
صوتُه مِنَ اللقالق، مِنَ الحراذين، مِنَ الجراد
مِنْ عواصف رمليّةٍ تهبُّ كثيراً
مِنْ حفيفِ أوراقِ الشجر
مِنْ زغاريد فرَحٍ ينكمش
مِنْ عِزّةِ النفسِ التي تنكمش
مِنَ الأسرار، مِنْ جَرَسٍ، من فوضى، مِنْ كأس
مِنْ شقاء، مِنْ نقاء، مِنْ أصدقاء
مِنْ كراهيّةٍ في كلِّ إتّجاه 
رخيمٌ، جهوريٌّ 
مِنْ فوّهةِ بركان، مِنَ الشلاّلات
مِنْ لحيةٍ تصلُ إلى الأرض، مِنْ فجوةٍ تتّسعُ 
مِنْ منفضةٍ طافحةٍ بأعقابِ السجائر
مِنْ دخانٍ كثيف
مِنْ سريرِ النوم، مِنَ التلفاز، مِنْ بساطِ الريح
مِنْ صدى، من ألعابِ الأطفال، مِنْ بئرٍ في صحراء
مِنْ مَسَاكن تليقُ بابنِ آدم
مِنَ الفصولِ المتعاقبة، مِنْ حركةِ المدِّ والجزْر
يأتي صوتُه مِنَ الدموع. 
**

يغرقُ، يتلاشى، ينبثق 
بلادٌ كلُّها ثائرة، بلادٌ كلُّها تخمد 
بلادٌ كلّها طبقة فوق وطبقة تحت
بلادٌ أكثرُها فاسد، بلادٌ بين جبٍّ ودبّ
لا فوقها لها، ولا تحتها لها
عيونٌ حزينة، عيونٌ غاضبة، عيونٌ مِنْ زجاج 
عيونٌ ذئبيّة، عيونٌ كسولة، عيونُ كناغر
عيونُ تماسيح، عيونُ أشرارٍ
عيونُ غافلين عنِ الخطرِ المحدِقِ بهم
عيونُ تائهين لا يعرفون المكان
قفزاتٌ مرّاتٍ عالية، قفزاتٌ مرّاتٍ متثاقلة
قفزاتٌ تأملُ أكثر ممّا تعمل، تدمِّرُ أكثر ممّا تعمِّر.   
**

لا نهضة ولا مَنْ ينهضون، لا عِلم ولا مَنْ يتعلّمون
مدارس كلاسيكيّة، مدارس رومنطيقيّة، مدارس رمزيّة، مدارس غنائيّة
مدارس سورياليّة، مدارس تكعيبيّة، مدارس تجريديّة
مدارس حداثويّة أو ما بعد حداثيّة
وجميعُها لم تستطع أن تغلق ولا نافذة واحدة
في مدرسةٍ خبْط عشوائيّة
هل يروقكم ألاّ يكفُّ الدجاجُ عن نقدِنا؟
أن ينكسرَ الموجُ
والقصد أن يصيبنا بالرذاذِ علَّه يزيلُ بعضَ الأدران بالهديرِ والزئيرِ عنّا؟
هل يروقكم أن تكركرَ العصافيرُ بالزقزقةِ والأنهارُ والسواقي بالخريرِ والأشجارُ بالحفيفِ 
والأبقارُ بالخوارِ والأغنامُ بالثغاءِ والحميرُ بالنهيقِ والخيولُ بالصهيلِ 
والذئابُ بالعواءِ والكلابُ بالنباحِ والأفاعي بالفحيحِ 
ضحكاً منّا أو علينا؟
هل يرضيكم ألاّ تكفّ الضفادعُ عنِ النقيقِ لتحرمَنا النومَ الهانئَ العميق؟
أن نغدو لقمةً سائغةً يعلكُها الأسدُ أو الفهدُ أو النمِرُ 
أو الضبعُ أو إبنُ آوى أو كلُّ إبنِ عرس؟ 
أن تجترَّنا الأبقارُ والأغنامُ؟ أن تتهامسَ الفراشاتُ مع الزهورِ أنّنا أجلافٌ أو علوج؟ 
.. وفيما أنا في سبيلي إليكم لكي أكون في حضرتِكم عندَ بعضِ الماءِ 
حظيَ بي فيلٌ وقال لي بالزئيرِ والهدير: "ألا يوجد دمٌّ، أيّها الحقيرُ، في جنسِكم؟
ما أنتم إلاّ في ضلال، أليست فيكم كلمةٌ طيّبة؟
ألا تصنعون صنيعاً طيّباً؟ ألا تشربون فراتاً طيِّباً؟ ألا تسلكون مسلكاً طيِّباً؟
ألا تقلعون عن الخزي والعارِ الذي أنتم فيه؟
الكبيرُ والصغيرُ والمقمّط في السريرِ مِنَ القطبِ وإلى الآخر 
يبلغُه خبرُكم المشين، النارُ تأكلُهم منكم مثلما تأكلُ النارُ في الهشيم
قلْ لقومِك الأشرارِ مثلك أنّي وكما نفى أفلاطون قوماً مِنْ جمهوريّتِه الفاضلةِ يوماً
سأنفيكم مِنْ مملكتي"
.. ولكَشَني بخرطومِه، وقذفني في الهواء، وأنا أنهضُ قالَ لي غرابٌ مِنْ غصنٍ يابسٍ في شجرةٍ خضراء
وهو ذاته الغراب الذي أضرمَ النيران في بيتٍ فقيرٍ كان يؤويه: 
"أيّها النكِرةُ، قلْ لأهلك النكرات مثلك أنّ كلامَ الفيل هو فيل الكلام" 
وقالَ آخر: "كيف أغار لِمَنْ لا يغار لي؟ كيف أفرح بِمَنْ لا يفرح بي؟
كيف أشتاق للذي لا يشتاق لي؟ ماذا أصنع مع مَنْ يُدافعني ويُزاحمني على التبنِ والأتن"؟ 
وقالَ ثالث: "لماذا كلُّ ذي أنفٍ أو منقار أو خرطوم يريد أن يدسَّ أنفَه أو منقارَه أو خرطومَه بشأنِنا؟
اسمعوني يا قومي: بعد كدْحي كدْحَ حميرٍ مجتمعةٍ رجعتُ إلى مرقدي مع غيابِ الشمسِ لكي أنام
هبطا إليّ مِنْ طاقةٍ صغيرة، قريبة مِنَ السقف، خفّاشان ضئيلان حقيران مِنْ جنسِ الخفافيش مصّاصةِ الدماء
ومِنْ فورِهما جرحا عقباً لي بمباضع لهما، خدّراني موضعيّاً في آن
تناوبا على اللعقِ مِنْ دمّي وشتمِ أبي وأمّي
حتى قال أحدهما للآخر: "التافهون، سأكرعُ مِنْ دمِهم ما حييت"
وامتلآ.. وطارا عبْرَ الطاقةِ ذاتها إلى شأنِهما
وأنا طوالَ الوقت لم أفعل شيئاً آملاً أن أتعلّم عليهما لغتهما الوطواطيّة
فأفهمُ عنّا، ولئن رجعا سأدوسُهما، سأمعسُهما، سأفعسُهما، سأهرسُهما"
وقالَ رابع: "كان نسرُ الجيف، لمّا أنبأه الهواءُ ماذا في المسافة، عندَ كتفِ جبل
أفردَ جناحيه وطار، وبعدَ وقت رأى النارَ السعيرَ لم تغادر شيئاً إلاّ وقد سوّتْه رماداً
وظلَّ في السماواتِ العلى يلفُّ ويدورُ حولَ ذاتِه قهراً
لحقَ به أهلُه، شرعوا يلفّون ويدورون معه، وهم يطيّبون خاطره لكي يرجع معهم إلى وكرِه ويرتاح
قبلَ أن تخورَ قواه ويسقطَ ويفكَّ رقبتَه
فجأةً انتهى الفيلمُ وظهرتْ على الشاشةِ كلمةُ "يتبع" 
وفي فيلمٍ قرّرَ أخٌ لنا أن يثأرَ ممّن أخذوه لحماً ورموه عظماً
خرجَ إلى البريّة، تثاءبَ وتمطّى، اعتبرَ ذلك تسخيناً وتدريباً كافيين
كشّرَ مثل كلبِ دوبرمان، ركضَ وطارَ في الهواءِ مثل سوبّرمان
صاحَ عندَ سحابةٍ عابرةٍ مثل طرزان حي بن يقظان
رفسَها، شرقطتْ، زمجرتْ، وهبطَ أخونا وهو يرفسُ كأنّه في مسّ
وقعتْ لبطةٌ في أمِّه، وقعتْ لبطةٌ في أبيه
وقعتْ لبطةٌ في جدّته لأمِّه فاستعجلتْ وقضتْ، وقعتْ لبطةٌ في حمل لا ناقةٌ له بعدُ في الدنيا ولا جمل
وقعتْ لبطةٌ في حائط، هو كلّ ما تبقّى لعجوز، ليس لها معيل، مِنْ بيتها القديم، بعدَ غارة ربطةِ العنقِ، الشوكةِ والسكّين
هدّتْهُ، رفعتِ العجوزُ يديها إلى السماء، تمنّتْ لو تأخذ السماءُ بخناقِ القومِ الظالمين
وقعتْ لبطةٌ في بطّيخةٍ انفجرتْ، طارتْ شظايا واصطبغتْ حجرانٌ بدمِها الأحمر الوردي
والكلبُ ينبحُ ويقول له: " يا حمارَ الحمير إنّك تؤذي أهلك المقهورين مثلك" ولا يسمع 
يتسلّلُ التعبُ إلى بدَنِه، يطلبُ الراحةَ بظلِّ شجرةٍ، تشتدُّ شمسُ الظهيرة
يُشرقطُ، تضيئُ في رأسِه فكرةٌ، ينهضُ، يزفرُ ويشهقُ مصدراً صوتاً لا أنكرَ منه، قولوا هو زمّورُ خطر
ينادي على أشباهِه في الخُلقِ ليهبّوا إليه، ويهبّون إليه مِنْ كلِّ فجٍّ عميق، وجلّهم تيوس وثيران
قال خطيباً: "سلاحُ اللبيطِ سلاحُ العبيطِ 
مثله مثل سلاحِ العضّ الذي يتباهى به صديقُنا الكلبُ 
الذي يعمل نبّاحاً، بأَجرٍ قدره عظمة، وغالباً جرداءَ 
قرّرتُ أن أفني الأعداءَ بضربةٍ قاضية"
وحثّهم أن ينتشروا في البلاد بحثاً عن كلِّ جهبذٍ بعلومِ الغازات التي تمتلئُ بها بطون لعملِ قنبلة
حثَّهم ألاّ يعودوا قرناً مِنْ أمام وقرناً مِنْ وراء
صاحَ تيسٌ: "بالأمس قطّع ساطورٌ منهم ساعوراً منّا.. الموتُ لهم"
وخرجوا ورجعوا بحزمةٍ مِنَ الجهابذة الذين بعضهم صناعة أجنبيّة وبعضهم صناعة وطنيّة
قالَ الجهبذُ جحْششْتاين بعدما سمع: "ولكن بشرطِ أن نمحو أيضاً العصافير والفراشات والزهورَ وحفيفَ أوراقِ الشجر وحكايات المطر" 
وحقّاً لا يليقُ أن أستفيضَ، وفي الختامِ مِنْ هذا الفيلمِ الرائعِ في قصّتِه، في إخراجِه وفي موسيقاه التصويريّة التي أين منها موسيقى فيلم بسايكو
خصوصاً في مشهد الحمّام الذي يُجهِضُ الحامل البكر ويصيبُ بالشيبِ رأسَ الوليد
وحدِّثوا ولا حرج عنِ المونتاج والإنتاج والمؤثِّرات الصوتيّة، وغير ذلك ممّا في صناعةِ السينما المتقدِّمة
ونرى مِنْ بعيدٍ نيراناً في أبنيةٍ معزولةٍ في عمقِ الصحراء، ونرى الدخانَ الكثيفَ على ألوان
ونرى الكاميرا تصوِّرُ مستعجلةً، ونرى أكداسَ النافقين
ثمّ الكاميرا تصوِّرُ مختبرَاً محطّماً، ونرى جحْششْتاين نافقاً 
وكأنّما حركةٌ، تسرعُ الكاميرا إلى تحت مكتب، فإذْ أخونا كلّ شيئ فيه هامد سوى بطنه
الذي كأنّما لا يريد أن يهمد قبل أن يهضم بعدُ لقمةً أخيرةً
أو بسببٍ مِنْ قوّةٍ عجيبةٍ غريبةٍ تصرُّ أن تنبضَ في هذا الكونِ العجيبِ الغريب. 
**

كان يُنقِصُ ويُضيفُ 
خلالَ القرونِ والآلافِ مِنَ السنين.
**

لكلِّ زمانٍ عقل، أم لكلِّ عقلٍ زمان؟
لكلِّ مقامٍ مقال، أم لكلِّ مقالٍ مقام؟
كلُّ حيّز له حركة، أم كلُّ حركة لها حيِّز؟
حياةٌ لكلِّ مسافة، أم مسافةٌ لكلِّ حياة؟
دمعةٌ في كلِّ عين، أم عينٌ في كلِّ دمعة؟
وكلُّ جسمٍ في رحيل، أم كلُّ رحيل في جسم؟. 
**

لا بدَّ مِنْ كَسَلٍ لتطيرَ فراشةٌ 
رأوا محيطاتِ غابات
الظَهرُ كان محنيّاً
محاصراً بخطرٍ مِنْ كلِّ جهة
كنّا هناك وهم رأوا
انحسرتْ محيطاتُ الغابات
كانت أمواجٌ من الملحِ تتقدّم
انقضتْ أحقابٌ وأحقابٌ بينَ الحجارةِ   
كنّا هناك وهم رأوا
وبعدَ كلِّ مرحلةٍ كانوا يقولون: "آآآه كم كنّا في ضلال"
"بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وتخلّى عنها
بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وانقلب"
"أعلّلُ النفسَ بالآمالِ أرقبُها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"
في خرافةٍ عابرةٍ في ابتسامةٍ عابرة
يرتفعُ فيما يحفرُ، ليهدَّ أساسات الخرافة
ها هو على قدميه، ها هو يزرعُ ويصنع
لسانُه ينطق، خيوطٌ وحبالٌ متقاطعة
ذاتها شبكة عينِ الكرةِ الأرضيّة
كأنَّ البدايات: 
سمكةٌ، أسدٌ، نسرٌ، سلحفاةٌ، تمساح
ليس أن تصعدَ إنّما كيف؟
على سلّمِ عظامٍ وجماجم، أم على سلّمِ موسيقى الحبِّ؟
يقولُ أنَّ عينَ العبثِ كلُّها عبث
أنّ عينَ النظامِ عين العبث
معادلةٌ لذاتِها وبذاتِها، موتٌ وحياة
"أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراحَ الماءِ والماء بارد"
بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وعنها تخلّى. 
**

قرّرَ في مرّةٍ أن يفرَّ، ويوماً ما هو لم يقرِّر
أن يفرَّ وفي الوقتِ المناسب
ويوماً لم يعمل عملاً في الوقتِ المناسب
لم يكن يوماً يأمل
وأيضاً هذه هي المرّة الأولى
كان الوقتُ المناسبُ متواطئاً معه
أسرعَ وهمسَ للشمس
قيل أنّه همسَ لها عن مظالم تُرتَكَب في الأرض جهاراً نهاراً لا وازع ولا رادع
ويسودُ ظلُّ القوّةِ الغاشمةِ، تُداسُ بالأقدامِ كلّ الشعاراتِ عن الحريّةِ والديمقراطيّةِ والعدالة
ويقولُ بعضٌ أنّها صدّقتْ فقد رأتْ، استقرّتْ في كبدِ السماء، هبرجتْ وتوهّجتْ
دلقتْ نيراناً رهيبةً صوبَ الأرض، رأى سيّدَه يركض ويحتمي بدارته مِنَ اللهب
حقّاً جاءَ الوقتُ المناسب، انطلقَ كالسهم وهو لا يعرف إلى أين ولكنّه يعرف أنّه يجب أن يبتعد 
ظلَّ يعدو بخطّ مستقيم، الريحُ تعبثُ بشعرِه، بلغ أرضاً رأى عندها بئرَ ماء
تذكّرَ أنّه رآه من قبلُ، مرّةً، قديماً، وهو بصحبةِ سيّده الجائر
إنّه بئرُ السباع، والإسم مقتبَس من حادثة اعتداء سبع
على حمار للزير الذي قام ولجم كلَّ مَن يقول أنّه سبع
ثمّ غفّ على السبعِ المستهتِر، وجعلَ له رسناً بعدما أشبعه لكماً وركلاً، حتى سمعه يقول:
"سامحني أيّها البطل الزير، لن أستهتر بعدَ اليوم أبداً"
واقتربَ الزيرُ مِنَ البئر حيثُ حماره القتيل، وملأَ قرَبَ الماء، وجعلَها على ظهرِ الذليل
وجرَّه نحو مضارب العرب صادحاً: "هذه حالُ مَن يجني حتى على حمار في حمى العرب"
والحادثُ هذا مضى منذ قرون وقرون" وقال أخونا لذاته:
"ما أدراني أن يكون بعض السباع قد فرَّ ونجا في ذلك اليوم المشهود، وبلغَه نبأ موت الزير
ورجعَ إلى الناحية غير هيّاب ليقتلَ ويسلب"؟
فرّتْ قبّرةٌ كانت في عشٍّ قريبٍ فأجفل 
ومِنْ دون أن يلتفتْ طارَ هارباً
ظلَّ يعدو حتى مَشارف مسافة على امتدادِ النظر، جرداء ولكن فيها شجرة، عندها كائن مِنْ جنسه
اقتربَ فإذْ هو يرى شبيهاً يقتعد حجراً، وأمامه جهاز "لاب توب"
واقتربَ حذِراً أكثر، حيّاه بالزفير والشهيق، الذي هو عين النهيق
فربّما كان مِنَ الجنّ الشرِّير، فيضجّ، ويختفي، ولا فرَّ ولا اختفى 
واقتربَ أكثر بأقصى الحذر، وزفر وشهق
أخيراً سمعَه يقول وهو لا يحيد النظر عنِ الجهاز: "اقتربْ، لا تخشَ يا بني، لستُ جنيّاً شرِّيراً
أنا شيخ مِنْ جنسِك، وحسناً فعلتَ أنّكَ فررتَ مِنْ وجه سيّدك
طالما ضربك وأهانك بأمِّك وأبيك وعمومِ أهلك، ولكنْ أكثر ما استصعبتَه أنّه وحده يفوزُ بالأطايب
كاللوز والفريز والموز والرزّ وبالكاد يرمي لك الفتات
أخيراً بلغَ السيلُ الزبى يومَ التهمَ وحده سلّةَ توت، ولم يلقّمك حبّةَ توتٍ واحدة"
وانتشلَ له مِنْ تجويفٍ في جذع الشجرةِ دلواً فيه ماء فشربَ دامعاً 
ثمّ قالَ متضرّعاً: "ساعدني"، قالَ مشيراً صوب جهة: "تنطلق غرباً حتى
تصل إلى بحر، تخوض فيه، وستبلغ بلاداً يُقال لها "أمّ الجماجم"
ويدعونها مرّاتٍ دلعاً: "آنسات ونواعم" وتقصد كلّيّتها العسكريّة
ستتعلّم بأجرٍ قدْره العملِ لهم بالمجّان، وفي آخر السنة الدراسيّة
سيكون إمتحان، وأنتَ وشطارتك: إمّا وسط، إمّا جيّد، جيّد جدّاً، وممتاز، وستنقلب إمّا ذئبٍاً، إمّا ضبعاً، أو فهداً، أو أسداً"
وتعاكَسَ ذاته آليّاً وأشارَ شرقاً وقال: "شرقاً، وبعدَ مسيرةِ يومٍ ستُشرفُ على رملٍ تعبر فيه سبعةَ أيّام
وستصل إلى واحةٍ مخرَّبةٍ، تسمعُ منها صوتاً يقول لك: "تأخّرتَ كثيراً يا أبا صابر"
وسينبثقٌ جمَلٌ، اتبعه، سيبلغ بك بلاداً إسمها الكتكوتيّة، ومِنْ فورك التحق بكلّيتها العسكريّة، وأنت وشطارتك بعدَ الحفظ والحفظ
وقد تنقلب إلى غزال أو إلى أرنب أو..". قاطعَه، وقال: "ليس سوى غرباً"
ودخلَ بلادَ "أمّ الجماجم"، والتحق بكليّتها العسكريّة عاملاً بالمجّان نهاراً ودارساً عليهم ليلاً 
واجتهد بصبرِ حميرٍ مجتمعة، ونجح بامتياز
وفي حفل التخرّج علّقوا على صدره ورقةً قالوا "مكتوب فيها: أنا الناب والنابُ أنا
أنا البطلُ الرئبال قاتلُ الرجال ومسبي النساءَ والأطفال"
وحاولَ ذاته أن يقرأ المكتوب، أعلموه أنَّ المكتوب ليس بالحبر الأسود الصيني، بل بالحبر الأبيض السرّي
أخيراً وهو في مرقدِه ليلاً متباهياً بحالِه وبالعزّ الذي يرفل به خطر له سيّده الجائر، وحدّثَ نفسَه بالإنتقام
ومع الفجر حملَ كلاكيشه، وعبرَ البحرَ بعدَ أهوال، وبلغَ راكضاً ناحيةَ الشبيه، وتمنّى لو لديه وقت ليمرّ عليه ويشكره
واجتازَ بئرَ السباع، حتى هو عند مشارف موطنه الأوّل رآه أمامه بكلّ هيئته ينظر إليه بدهشة، قال أخونا: "اندهشْ، يجب أن تندهش، لقد انقلبتُ إلى أسد 
والآن هل تعلم بماذا سأجازيك على بلاويك؟ سأثب عليك، سأنيّبك، سأخلّص الأرض منك ومِنْ شرورك 
ولكنْ لا، ليس قبل أن تموت ألف مرّة قبلَ الميتة الأخيرة"
ولم يؤجّل عملَ اليوم إلى الغد، رفعَ صوته بالزئير، ردّدَ الصدى صوتَ النهيق، وأيضاً، وسمعَ الصدى صوتَ نهيق
تحسّسَ أسنانَه، لم يصطدم بناتئ، وسمعَ سيّدَه يقول له: "أحلفُ أيّها الحمار أنّ أنت هو أنت"
وقفزَ نحوه، وقبضَ عليه مِنْ رقبتِه. وقال بغضب: "أين كنت؟. أنا أشقى وأنت داير على حلِّ شعرك"؟ 
وبعدَ فترة تواطأ معه الوقتُ المناسبُ أيضاً
وفرَّ تحت غطاء مِنَ اللهب الآتي مِنَ عينِ الشمسِ المجنونة، ومرَّ ببئرِ السباع، وترحّم على الزير، وبلغَ مشارفَ الخلاء، وقصدَ الشجرة
وكان شبيهُه تحتها يقتعد الحجر ذاته وأمامه الجهاز ذاته مستغرِقاً فيه، ووقفَ خلفَه مِنْ دون أن يفتح فمَه أو يأتي بحركة
وبعدَ دقائق طوال قال مِنْ دون أن يلتفت: " حمداً على السلامةِ يا بني". والتفتَ ليراه على حالٍ تصعبُ حتى على الحجر
وحاولَ أن يحني رأسَه، فصرخَ به باكياً: "أنظرْ ، لقد عملتُ بمشورتك وانظرِ النتيجة
عصيُّ المايسترو سيّدي حفرت أثلامَاً في كلّ جسمي، هل حقّاً أنا انقلبتُ إلى أسد؟ أحلفُ أنّك ولا تراني حماراً
إلى مَنْ ألجأ؟ سيّدي ضدّي وشيخي ضدِّي؟ ماذا جنيتُ أنا وعلى من اعتديتُ؟ أم لأنّي قليل الحظّ وهو مؤيَّد
يجب أن يدوس علي؟. لماذا تعينه علي"؟. 
أخيراً سمعَه يقول: "لا يا بني". ودعاه ليقرأ سطراً على الشاشة، وذاته قرأ:
"يجب، ومِنْ أي سبيل، أن نمنع وحدةَ البرابرة". وكأنّما لذاته قال: "كفى، هذه مجزرة". 
**

ما ضاعَ ليس كلُّه ضاع 
شجرةٌ وحيدة في المسافة
ترفع قميصَها الأخضر لكفيف يبحثُ عن عينٍ أو نظر.     
**

"إنّهنّ قتيلات، إنّهن خفيضاتُ الصوت، حذِرات
"كالعيسِ في البيداءِ يقتلُها الظما
والماءُ فوق ظهورِها محمول" 
البيتُ الذي ليس فيه بيت
القلبُ الذي ليس فيه أو له قلب
الوجهُ الذي لا وجه له، الرأسُ الذي بلا رأس
الشراعُ الذي لا شراع، النهرُ الذي لا نهر 
القمرُ الذي لا قمر
كلّما ابتعدتِ المسافةُ اقتربَ المكان 
والمكانُ شائكٌ أكثر
مؤسفٌ أكثر.
**

لستُ أنتَ وأنتَ لستَ أنا
ومساحاتٌ يستردُّها البحرُ 
خرجَ البحرُ ليحيا في بحرٍ آخر   
وكثيراً لا، وليسوا هنا. 
**

اليدُ التي تصنعُ الدخولَ والخروج
أوّلُ الأثرِ وامّحاؤه
يجب أن يعرفَ، يتماوجُ في الماءِ جرادٌ   
خناجر، ظهورٌ مكسورة
عالمٌ في كلِّ عالَم
وفي الداخلِ في بطنِ "في"
فوضى هو الطقسُ، فيه مِنْ كلِّ ناحية
أوحى بالسيفِ، الضوءُ قليلٌ 
حاجزٌ خلفَ كلِّ حاجزٍ، أمّهاتٌ وحدهن
لم يغادر شيئاً إلاّ وانقلب إليه، السؤالُ لم يصل
الأملُ قليل، أضاءَ ولا يزال في عتمة
تسلّلَ منكَ إليكَ، كلّه سمٌّ، فيه أمكنة 
عليها الرملُ يتراكم
يقول، كلّما لا يصل، مرّاتٍ هو عين
الصورةُ الحقيقيّةُ لا تكذب
الكلُّ تائه
يَرى، يُرى
الصبرُ الحكيمُ رأسُ الحكمة. 
**

ثمّ اشتعلتِ الحربُ، واستبسلَ أيّما استبسال
مهمّةُ أخينا أن يشيلَ على ظهرِه خلل الغاباتِ البكرِ والأوديةِ السحيقة
وخلل الممرّاتِ الضيّقةِ عندَ أكتافِ الجبالِ الشاهقةِ نحو خطوطِ النارِ الأماميّة
ويرجعُ بالمحمومين والجرحى أو القتلى
ترقّى مِنْ شيّالٍ إلى عتّال، ثمّ، ويا له من أخرق، إلى حمّال
لكنْ في آن يحظى، والحقّ يُقال، مكتسبات 
مثالاً كان يقتات ممّا ينجم وصارت له مائدة
كان يستحمّ تحت وابلِ المطر أو فيما هو يخوض مجرى نهر 
صار له معاون يحمّمُه بالماءِ الدافئ، ينشّفُه ويعطّره
والمُحال أن يستقرَّ الحالُ على حالٍ، وطالتِ الحربُ
ما كان عمليّةً بسيطة صار عمليّةً معقّدةً فيها حياة أو موت
وأصابَ الشحُّ أصلَ الموارد، وأصابَه التقنينُ حتى أتى على مكتسباته
وطالَ أمدُ الحربِ أكثر، وساءتْ أخلاقُ الجنودِ أكثر، وكذلك الأعلى بالرّتب
رآهم يفتكون بأسرى، رآهم يغيرون على قرى
شبيهةٍ بأعشاشِ عصافيرِ الدوري ويضرمون النيرانَ فيها
رآهم يلقون لأسنانِ البورانا عيوناً، وأيضاً لم يعفّوا عنه ذاته
لو أرادوه أن يتحرّك كانوا له يقولون مثالاً: "تقدّمْ"
صاروا بلؤمٍ يقولون له: "حااااا"
إذا أرادو منه أن يتوقّف كانوا يقولون مثالاً: "قفْ"
صاروا ضاغطين على النواجز قرفاً يقولون له: "هشّشششش"
الإمتيازاتُ كلُّها طارت. طلبَ الجنرالُ مزيداً مِنَ القوّاتِ والمعدّاتِ 
وامّحتْ مطارحُ كثيرة عن الخريطة، ليس الهدفُ حقول الموزِ، بل كان عين تنصيبِ الديمقراطيّةِ ملِكة 
الحضارةُ يجب أن تنتصرَ على الهمجيّةِ. خلقٌ كثير ماتوا
وعلى رغم الإنجازات، وهي كلّها رهيبة، لم ينكسر ظهرُ المقاومة   
ووقعتْ عينُ حاصودِ الموتِ على الحمّال
وهما وجهاً لوجه لم يقدر عليه، الحاصودُ لا يستطيع أخيراً أن يحصدَ أكثر ممّا يستطيع
أصابَه مسٌّ، وأقسمَ أنّه لن يهدأ باله ولن يهنأ حاله حتى يرى الحمّالَ صريعاً
وكمنَ له تحت حجرٍ في ممرٍّ عند أعالي جبلٍ شاهق، وداسَ الحمّالُ على الحجر، انهزل لكي يتعثّرَ ويسقطَ في الوادي، وما مِنْ فائدةٍ تُذكر 
أرشدَ المقاومةَ إليه مراراً، قصفوه بالكاتيوشا، امّحى كلُّ مَنْ كان معه، وهو وحده نجا
همسَ الحاصودُ لذبابةٍ، معتمِداً الحرب النفسيّة الخطيرة، طلب منها أن تقوم عندَ أذن الحمّال وإلاّ سينزع روحَها
وأوحى للحمّالِ المُنهَك أنَّ هذا الطنين هو هدير صاروخ مزوَّد بمعلومات ألاّ ينفجر إلاّ وهو في داخل رأسِ الحمّال، داخلاً إليه مِنْ طريقِ أذنيه
أُصيبَ الحمّالُ بصعقةٍ، ولم يمت. ووزّعتِ المقاومةُ منشوراً تستغربُ أن تكون الديمقراطيّةُ هي حقّ الذئبِ أن يفلتَ بين الحملان
أصرّت على المقاومةِ المسلّحةِ المستمرّةِ حتى دحرِ آخرِ فلولِ الإحتلال
وبدأتْ قلاعُ الإحتلال تسقط ، أخيراً لم يبقَ إلاّ سطحُ مغارة
حطّتْ عليه مروحيّةٌ عسكريّةٌ بانهماكٍ، ثمّ فرّتْ بما حملتْ
فيما حبلٌ يتدلّى، يتعنزقُ به الحمّالُ ذاته الذي رجع إلى ديرته وإسطبله ناجياً بروحِه ولكنْ ليس بعقلِه. 
**

وطالما سمعتُه يقول أنَّ "الواقعَ أغرب مِنَ الخيالِ"، أنّ الزحمةَ غير صحيّة، أنّ العقلَ يدركُ العقلَ
ما انقطعَ يتّصلُ لكن قبلَ فوات الأوان، كذّابٌ مَن يدّعي أنّ خلاصَه ليس مِنْ خلاصِهم
لا يحبّ الحياةَ مُتخَمٌ وجارُه يتضوّرُ جوعاً. 
**

أنا في المحلِّ، أنا المحلُّ، أنا هم وهم أنا، المحوَرُ المائلُ، والأرضُ تدور.
Shawki1@optusnet.com.au
ـ صدر عن دار غاوون عام 2011.