(تقديم)
هي أوراق كُتبت بدءاً من تسعينات القرن العشرين، ضاع أكثرها في حادثتين مؤسفتين، لا حاجة من إيرادهما، وهي في أخبار بعض أبناء الجالية اللبنانيّة والعربيّة عموماً في سيدني ـ أستراليا. ولئلاّ تضيع هذه أيضاً جمعتها، ونظرت فيها وجعلت لها عنواناً هو "الكنغارو العربي"، والكنغارو أو الكنغر هو حيوان شكله عجيب، غريب وطريف، قامته تصل إلى طول قامة الإنسان تقريباً، وجهه وأذناه وجه وأذنا حمار أو جمل أو لاما أو ثعلب، بحسب زاوية النظر، قائمتاه الخلفيتان قويّتان، معدّتان لإجتياز المسافات الماراثونيّة قفزاً، كأنّهما "رفّاصان"، ذيله متين، إذا استند إليه واقفاً، بعد تثبيت طرفه الآخر في الأرض جيّداً، قولوا هو قائمة أيضاً، قائمتاه الأماميّتان صغيرتان قياساً بالخلفيّتين وبذيله الطويل، يلاكم بهما خصمه، ويا ويل من يعاركه، وفي آن هو مسالم، عاشب، أنثاه لها جراب في بطنها هو بيت جروها يغادره ليستكشف أو ليلعب ويرجع ليدفأ فيه إذا بردٌ أو ليبترد فيه إذا حرّ، وإذا اعتاد الكنغر قد يقترب كثيراً من بني آدم لإلتقاط قطعة خبز يُقدّمها بسعادة إليه، وقد اتّخذته أستراليا ـ الجزيرة ـ القارّة الأصغر ـ المحاطة بالمحيطين الهادئ والهندي ـ والمحيط المتجمّد الجنوبي ـ أحد أيقوناتها الطبيعيّة الأبرز. وهي أوراق عن بني جلدتي في "مركب الغربة الطويلة"، بحسب صديقي الشاعر شربل بعيني، أو الوطن الحبيب الثاني "أستراليا"، وأنا أسترالي من أصل لبناني، وجلّهم ممّن لا يدّعون "كياسة" ولا يلهثون وراء "رياسة".
**
(محلاّت الشرق الأوسط)
لم يكن الدكّان الصغير، وإسمه حقّاً كبير: "محلاّت الشرق الأوسط للسمانة والخضراوات"، هو الدكّان اللبناني أو العربي الوحيد وحسب في سوق شارع ولونغونغ ـ محلّة أرنكلف ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني ـ أوائلَ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، حيث يكثر نسبيّاً ذوي الأصل اللبناني، وخصوصاً من جنوب لبنان، بل كان أيضاً الملتقى شبه الوحيد تقريباً لأبناء الجالية حيث يتمّ التعارف مع التبضّع وتبادل الأخبار والمعلومات، وكانت في ذلك العصر والأوان مشكلة إذا حدثت وفاة، فأين سيُدفن اللبناني الأصل وله رغبة بالدفن في الوطن الأمّ لبنان؟ ـ وهي عموماً رغبة طبيعيّة كانت تكاد تشمل معظم أبناء الجالية اللبنانيّة في عموم أستراليا ـ وفي آن مطار بيروت الدولي، بسبب من الوضع الحربي، معطّل؟.
وحدثتْ وفاة وشحّت المعلومات وقصدتُ الدكّان وتيقّنتُ، بعدما استفسرتُ واستزدت، فالمتوفّي رحمة الله عليه هو مَن هو وأولاده هم مَن هم من بلدة "كذا" الجنوبيّة اللبنانيّة، وكان في الدكّان صاحبه خليل، اللطيف جدّاً، وآخر هو زميل عمل في مصلحة سكك حديد ولاية نيو ساوث ويلز ويُدعى سمير وثالث إسمه سعدالله، كان سائق تاكسي "أيّام لبنان" وهو عاطل عن العمل الآن، وبعد أخذ وردّ وهذا يُدلي بدلوه وذاك يفعل مثله قال أخيراً عامل سكك الحديد ما لم يبتعد عن واقع المهنة أنّ القطار "النحاسي" اشتغل على "الخطّ" مئة سنة حتى أخيراً ترهّل واحتمله الناس وتدهورت حاله أكثر واحتملوه أيضاً وصار كلّه أعطاب ولا بدّ من إحالته إلى التقاعد وأحيل واستُبدل بالقطار "الفضّي"، رحم الله المتوفّي!. سائقُ التاكسي "أيّام لبنان" والعاطل عن العمل الآن استشعر إمكان أن يقول شيئاً مشابهاً لكي يبدو محدِّثاً أيضاً، قال إنّ محرّك السيّارة إذا كانت عموميّة ـ تاكسي ـ يتعب بسرعة بسبب من العمل المتواصل، ونصلّحه وتزيد أعطاله ونعمل له "سكمان" ـ "نصف موتور" ـ ولكن أخيراً لا بدّ أن يتقاعد، والرحمة على المتوفّي.
صاحب المحلّ خليل كان يسمع ولكنّه كلّما بدا في عينيه كلام ملحّ ولا بدّ أن ينطق، هو مفوّه بعيني ذاته مثل الصديقين ولا بدّ أن يدلي بدلوه، ما قالاه أنّه لا مفرّ من الموت هو يمكنه أن يأتي بمثله وبل بأبلغ منه. استوقفَنا حين رآنا نهمّ بالخروج وقال وهو على إرتباك: "أنا سمعتكم فاسمعوني"!، قلنا نسمعه. قال بعدما التفت إلى زاوية في الدكّان وبعدما توقّفتْ عيناه لسبب سندركه على صندوق كوسى "خربان" أو "مضروب" إنّ المرحوم "قُدّس سرّه" كان من الصنف الفاخر، ولكن ماذا الإنسان؟، هو مثل صحّارة الكوسى هذه، وأشار إليها في الزاوية، قال إن كوساية "تضرب" زميلتَها وزميلتُها "تضرب" زميلتَها ودواليك حتى "ينضرب" الصندوق كلّه، وماذا نفعل؟، نحمل الصندوق حملةً واحدة إلى صندوق القمامة الكبير في الخارج ونرميه فيه. رحم الله المتوفّي.
وكان سمير ينظر إلى صاحب المحلّ غير مصدّق ماذا يسمع فيما سعدالله لم يكن له من الحزم ما لصديقه، فقع ضحكة، وخليل عيناه تغزلان كأنّهما "روليت"، لماذا ينظر إليه سمير على هذا النحو ولماذا يستمرّ سعدالله بالضحك حتى يسند ظهره إلى الحائط ويضغط على صدره كأنّما خوفاً على قلبه من الإنفجار؟!. والحقّ أني صمدتُ أمام هذا المشهد صمود أبطال. وأخيراً طلبت من الزميلين أن نغادر المحلّ على عجل فقد "إبن عرب" يدخل فجأةً وقد يكون من أهل الفقيد ولا يليق أن يرانا هكذا لا نشاركه المصاب، وهذا عيب.
(خليل وفاطمة)
هو مهاجِر إلى أستراليا منذ عام 1968 وصاحب أوّل محلّ سمانة، خضراوات وفواكه افتتحه "إبنُ عرب" في سوق شارع ولونغونغ ـ محلّة أرنكلف ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني ـ له طفلان مِنْ زوجة فاضلة ارتضتْه وتحتمل تبعات ارتضائها بصبرٍ جميل فتجمع ما هو يفرِّق وتضيف ما هو يُنقِص على قدرِ عِلمِها وحلمِها، إسمُه خليل، إسمُها فاطمة، أمّا "أماندا"، الأستراليّة ـ البريطانيّة الأصل ـ البيضاء ـ الشقراء ـ الزرقاء العينين ـ والبدينة فقد علِقتْ خليلاً السخي حدّ الإفراط إذا علِق، و"ما ألذّ هذا العنب" و"ما ألذّ هذا التفّاح" وقبل أن تصل إلى شقّتِها في محلّة بانكسيا المجاورة يكون ما تشتهيه قد سبقها إلى شقّتها.
وهكذا بدأت أرباح المحلّ تتناقص وتعمل فاطمة أنّها تصدِّق وخصوصاً حين يقول أنّ السوق ليس له أمان: "يطلع وينزل"، فيما نظراته وحركاته تكذّبه كذباً، وما أوهاه على الكذب. أخيراً وقعتْ فاطمة وبالصدفةِ المحض، بتأكيدها، على بطاقة في جيب سترته الداخليّة وأثر الشفتين المكتنزتين الحمراوين عليها وإسم "أموندا" مكتوب بالعربية والخطّ "مفشلك" وهو خطّ خليل ورقم هاتف مكتوب على نحو جميل وليس هو خط خليل بالتأكيد.
وأكّدتْ "أموندا" التي هي "أماندا"، بعد مهاتفتها من فاطمة، وبعد إعلامها أنّها تخرّب لها بيتها وأن زوجها خليل وبسببها، صار يضربها ولم يعد يحتضن الأطفال أو يراهم ـ وكلّ هذا غير صحيح قطعاً ـ أنّها لم تعرف أنّ "كارل" أي "خليل" هو زوج وأب ووحش!. وعلى رغم صدق اللهجة ظلّ القلق متشبّثاً بفاطمة. وبعد يومين هاتفتْه أماندا: "هل ستأتي الليلة يا كارل"؟، وجوارح خليل كلّها متعطّشةـ وأضافت: "هل لديك صديق من أصل لبناني"؟، وما أكثر أصدقاء خليل، وتابعت: "أرجو أن تختار واحداً لصديقة لي تحبّ ذوي الأصول اللبنانيّة"!. واتّصلَ خليل بصديقه "جيفري" ـ جعفر ـ "أبو محسن" ـ فأجاب أنّه لها ولو هي على حافّةِ قبرها!.
وقرعا بابَ الشقّة، أحدهما كبير الجسم، مليء الخدّين، لطيف، أشعث، جاحظ، هو عين صديقنا خليل، والآخر، قولوا طوله "شِبِرْ" أو "فِتِرْ" وأرفع من خيط. وفتحتْ أماندا البابَ واحتضنتْ "كارل" واحتبستْ مشاعرَها وهي ترحِّب بصاحب صديقتِها الفرِح والمرتبِك في آن، وسكبتْ لهما كأسي نبيذ، وعلى رغم أنّهما لا "يشربان" استقبلاهما بغبطة، ولحظات حتى سأل "كارل" بلغة إنكليزيّة "على قدّه" وهو يتلفّت يميناً ويساراً: "شي هِيَرْ؟! شِيْ كَمْ"؟! ـ "هل هي هنا؟! هل جاءت"؟!، قالت إنّها كانت تستحمّ وهي ترتدي ملابسها. وهما يعتدلان في مقعدَيهما نادت باتّجاه الغرفة القريبة: "فاتيما"!، ونادتْ أيضاً: "فاتيما"!، سألَها خليل بحذر: أرابيك؟! ـ عربيّة؟!، قالت بتأكيد: أند ليبانيز ـ ولبنانيّة، وأضافت: أند يو نو هير ـ وأنت تعرفها!.
وبعدَ شهر من هذا اليوم الذي يشيب له رأس الوليد وتجهض الحامل البكر، كما يُقال للتهويل، وفيما الحربُ في لبنان لا تزال "مشمّرة" أو "على قدم وساق" أقلعتْ طائرةٌ مِنْ مطار سيدني باتّجاه الشرق الأوسط ومِنْ ضمن ركّابِها خليل مع كامل طاقم أسرته. وعلى رغمِ إستواء الطائرة في الجوّ وافتكاك الأحزمة كان خليل لا يزال مُحزَّماً وبأدبٍ جمّ يرشف مِنْ كوبِ عصير برتقال في يدِه.
(المرحوم حيّ يُرزَق)
غادر خليل صاحب دكّان: "محلاّت الشرق للسمانة والخضراوات" وطنه الثاني أستراليا إلى الوطن الأمّ لبنان مع كامل أفراد أسرته أواخرَ عام 1979 وكانت الحرب الأهليّة التي بدأت عام 1975 في لبنان لا تزال في إشتعال وتخفت وتنشب، وفي سنة 1990، أي بعد "إتّفاق الطائف" وعودة الإستقرار النسبي، رجع، ويا للمفارقة، وأسرته إلى أستراليا ـ سيدني ونزل ضيفاً على قريب له في محلّة أرنكلف ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني.
وفي صبيحة اليوم التالي خرج يتفقّد أحوال المحلّة التي خبرها جيّداً وكانت له فيها "أيّام" ولكي يرى إلى ما آلت إليه ويبحث في آن عن بيت للإيجار، ولاحظ أنّ المحلّة لم تتغيّر، عمرانها هو هو سوى أنّ اللبنانيين والعرب عموماً ازدادوا عدداً بشكلٍ ملحوظ بين بابل الأمم، فالذي أصله يوناني والذي أصله يوغسلافي أو إيطالي أو إفريقي ـ مصري ـ سوداني ـ أو آسيوي ـ صيني ـ أندونيسي ـ أو "أوزي" أي من الأستراليّين البيض القدامى، وأصلهم غالباً من بريطانيا، سكوتلاندا وإيرلندا، وذاك وذيّاك ربّما ألماني أو أسباني أو "أبوريجنال" ـ سكّان أستراليا الأصليّين، وإلى يسار ويمين دكّانه السابق الذي لا يزال جرى افتتاح محالّ ألبسة نسائيّة "شرعيّة" و"لحم حلال" ومأكولات ـ "حمّص، فول، تبّولة، فلافل".
ووجدَ ذاته على حين غرّة وجهاً لوجه مع صديق قديم إسمه إسماعيل وآخر يتّكئ عكّازاً. تحاضنا، تباوسا، وقال إسماعيل وهو لا يكاد يصدّق: "صديقي خليل في سيدني"؟!. وتحاضنا مجدّداً وتباوسا وشدّا على أيدي بعضيهما وقدّم إسماعيل أخيراً صديقَه صاحب العكّاز قائلاً: صديقي وأخي سهيل جابر ـ "أبو أحمد" ـ عوّضني الله به عنك طيلة غيابك". وكانت عادة في خليل أقوى من الزمن وهي إذا التقى شخصاً ولو لأوّل مرّة في عمره يعمل أنّه يعرفه منذ الأزل، وقال لإسماعيل: "تُعرّفني أنا على أبي أحمد؟!، ولو، أنا خليل تُعرّفني على أبي أحمد؟!، نحن معرفتنا ببعض قديمة"!. واحتضن أبا أحمد وبوّسه وشدّ على يديه وسأله عن حال "أمّ أحمد"، برهاناً أنّه يعرفه معرفة دقيقة، وعن حال المحروس "أحمد" الذي لا شكّ هو الآن ما شاء الله شابّ ـ نخلة!.
قال أبو أحمد المتأكّد أنّه لم يلتق بالأخ خليل يوماً وفقط سمع عنه من الصديق المشترك إسماعيل: "جميعنا بخير"!. ولم يكتف خليل بل نظر إلى العكّاز في يد أبي أحمد وأبدى اهتماماً بالسؤال: "ما هذا العكّاز يا أبا أحمد؟، يوماً لم تحمل عكّازاً"؟، قال أبو أحمد وقد بدا إنزعاج على وجهه: "حادث سيّارة وعمليّة جراحيّة صغيرة في الظهر". قال له خليل: "إطمئن"، هكذا بكلّ أريحيّة وثقة، "التقيتُ والدك في بيروت قبل أيّام وهو والحمد لله بتمام الصحّة والعافية ولا ينقصه سوى، كما أكّد لي حرفيّاً، رؤوية وجهك المبتسم دائماً".
ارتبك أبو أحمد أيضاً ومع ذلك قال: "لا بدّ أنّ الأخ مشتبِه". وأوضح أنّه ربّما يعرف شخصاً آخر غيره يشبهه، وقال: "أبي، رحم الله أمواتك، توفي قبل عشر سنوات"!. ودخل على خطّ الحوار صديقهما المشترك إسماعيل مستدركاً ما كان يهجس به حقّاً، لمعرفته بسلوك صديقه خليل وبسلوك صديقه أبي أحمد. قال محدّثاً الأوّل: "أبو أحمد يقول الحقّ يا خليل، قد تكون تعرف شخصاً آخر وهذا يحصل وكثيراً ما يحصل". وعلى رغم كلام إسماعيل المطمْئِن أصرّ خليل على إصطناع إستغراب، ورجعَ خطوتين وقال: "قولا أي كلام آخر، أبو أبو أحمد رحمةُ الله عليه مات قبل عشر سنوات وأنا قبل أيّام معدودات التقيته في بيروت"؟!.
وأكّد أنّه أعلمه بالعودة إلى أستراليا وأنّه سأله إذا يوصّيه فأوصاه. ووقعتْ عينا خليل على عكّاز أبي أحمد أيضاً فأوحت كذلك وقال: "والدك ساقه "مقطوشة" ـ مقطوعة ـ مبتورة ـ أليس والدك رحمة الله عليه بساق "مقطوشة"؟!. وإلى هذا الحدّ يكون السيل قد بلغ الزبى. "فقَسَ" أبو أحمد كأنّما ليفضح نوعيّة أصدقاء إسماعيل ورمى العكّاز جانباً ورفع يديه عالياً وصاح وسط ذعر المارّة وفرارهم منه: "يا أهل أرنكلف، يا عالم يا هووووه، أبي مات قبل عشر سنوات وأقمت عن روحه أسبوعاً وأربعين وذكرى سنويّة واسمعوا الأخ يقول الآن إنّ أبي حيّ يرزق والعلامة ساقه "مقطوشة" وهو بغاية الشوق لرؤيتي"!. وعبثاً حاول إسماعيل أن يسترضيه وكان خليل قد هرب.
(حمار قبرصي)
أ ـ
نجحتْ رابطة أبناء جنوب لبنان ـ سيدني ـ واستحصلت، بعد مساعٍ حثيثة من وزارة الهجرة الأستراليّة، وذلك عام 1976، وضمن خطّة جمع شمل، على طلبات هجرة لأهل اللبنانيين الجنوبيين الأستراليين، أولئك الذين يتعرّضون في لبنان للخطر بسبب الأوضاع الحربيّة. وانتقل المئات نتيجة هذا المسعى من الجنوبيين اللبنانيين إلى قبرص حيث السفارة الأستراليّة في العاصمة نيقوسيا التي حملت أعباء السفارة الأستراليّة في بيروت غير الآمنة يومها والتي هربت بموظّفيها طلباً للسلامة.
ومِنْ "سوبّر ماركت" صغير في بلدة "كاكوباتريا" الجبليّة القبرصيّة "تحوّجتْ" سيّدة جنوبيّة ما تشاء، كان كلّ شيء معروض أمامها بشكلٍ واضح، منظَّم على الرفوف ومسعَّر. ووضعتْ ما تناولته في سلّةٍ تحملها، حتى شاءت أن تشتري بذوراً مجفّفة "للقصقصه" والتسلية. ولفّت ودارتْ وبصحبتها إبنها اليافع الذي أنجز سنته العاشرة في المدرسة التكميليّة، لم يعثرا على ما تريد، والإبن مُطيع. قصدا موظّفاً، نظرت الأمّ باتّجاه إبنها الذي "دخل مدرسه"، كما تقول لمّا تشاء الإستهزاء، لكي ينطق، وهو لا يعرف معنى "بذور مجفّفة" أو ما معنى كلمة "مكسّرات" لا بالقبرصيّة التي لا يفقهها، لا بالفرنسيّة التي اتّقنها معادلات في الفيزياء والكيمياء والجبر والهندسة ولا بالألمانيّة التي له معرفة متواضعة بها ولا بالإنكليزيّة التي يعرف فيها جملاً بالكاد تسلّكه.
وأخيراً نظرَ صوب الموظّف وسادَ صمت. "لكَشَتْ" إبنها لكي ينطق، لم يجد مهرباً، جمعَ السبّابة إلى الباهمِ، قرّبهما مِنْ فمه، نفض بإتّجاه الأرض ما هو بين السبّابة والباهم وقال: "Je veux ـ أريد.. وقال: "Ich mishte" ـ أريد.. وقال "I want" ـ أريد. وأخيراً "لكَشَتْه" لينصرفا، وكاد يقول لأمّه وهما يخرجان من المتجر أنّ الموظّف القبرصي هذا هو حقّاً "حمار قبرصي"، لكنّه تراجع في اللحظة المناسبة لعلمه الأكيد أنّ ما من "حمار قبرصي" في عينيّ أمّه الآن إلاّه!.
ب ـ
الطائرة! ها هي فوق سيدني، وذاتها، "سيّدةُ قبرص"، رأت من النافذة ما خيّبَ ظنَّها وظهر بوضوح جلي على وجهها، سألها إبنها اليافع إيّاه، "إبن المدرسه"، الجالس إلى جانبِها، عن أمرها؟! قالتْ: "أستراليا هذه كلّها صراصير"!. نظر من النافذة التي دفع جسمه نحوها ومطّ رقبته وفهِمَ وقالَ إنّ الصراصير هذه ليست غير سيّارات تبدو صغيرة لأنّ الطائرة بعد في علوّ، وقالت، وقد بلغت صيدها، وهي تبتسم ابتسامة الأمّ الساحرة: "عال، صار الحمار القبرصي يفهم"!.
(أبو شاكر وأبو هاني)
اللّحم "الحلال" كان نادراً في سيدني، وكان البعض من الأستراليين العرب المسلمين، عام 1978، يقصد الملاحم "الأستراليّة" لتأمين اللحم، على رغم العِلم أنّه غير "مذبوح" على الطريقة "الإسلاميّة"، وبعضهم كان يضع اللّحم فوق "مصطبة"، مثالاً لا حصراً، يهرق ماء طاهراً فوقه، أو يضعه على منشر الغسيل، في حديقة البيت الخلفيّة، ويرشّه بالماء، ويقول، وهو يمارس هذا الطقس: "بإسم الله، والحمد لله"، مثالاً، فيصير اللحم حلالاً.
ودخل أبو شاكر ومعه تابعه، صديقه الطيّب القلب، أبو هاني، ملحمةً "أستراليّة" في محلّة روكدايل ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني، وأبو شاكر يُجيد بضع مفردات إنكليزيّة، ويتباهى أمام أبي هاني بما يعرف، حتى يظنّ الأخير، الذي لا يجيد غير "يس" ـ نعم، و"نو" ـ لا، أنّه قولوا: "شكسبير"، وقال للّحّام: "تو كيلو" ـ 2 كيلو، رافعاً السبّابة والوسطى، ومشيراً إلى ذاته. ثمّ أشار إلى صديقه أبي هاني وقال: "تو كيلو". وفهم اللحّام الأسترالي اللطيف ماذا يريدان. وأشار أبو شاكر، أيضاً، إلى فخذ غنم معلّق أمامه. واستلما، ودفعا الثمن، ولكنّ الواقعة وقعت حين وقع نظر أبو هاني على قطع خشبيّة عند زاوية من الملحمة، وقال لأبي شاكر واثقاً بأنّه سينقل إلى اللحّام ما يطلبه": "اسأله إذا ما بدّو هل خشباتْ أنا باخدهن للموقده"!. ووقع أبو شاكر في "حاص باص"، أو "حيص بيص"، هو بالكاد نجا بجلده أنّه استطاع إفهام الّلحام ماذا يريدان من اللّحم!.
رآهما اللحّام الأسترالي وكأنّهما في أمر، وهو، وبكلّ طيب خاطر، مستعدّ لأي مساعدة. سألهما عمّا يشغل بالهما؟. لم يفهم أبو شاكر كلمة. تطلّع أبو هاني إلى أبي شاكر واستفسره ماذا قال اللحّام؟. واحتار أبو شاكر، لكن سرعان ما قرّر أن يفرّ إلى الأمام، فهو يكاد ينفضح، قال لتابعه: "قالْ خدوا لحمتكن وفلّوا من هون"!. وكم تضايق أبو هاني، حتى قال لأبي شاكر، وهما يخرجان من المحلّ على عجل، وكلّما يلتفت بغضب صوب اللحّام: "يخرب بيتو قدّيشو لئيم، والله والله، من لمّن شفتو ما ارتحتلّو، تحرم عليّي هل ملحمة بعد اليوم"!. وخرجا، أبو هاني تسطع عيناه بجمر الغضب وأبو شاكر يضحك بعبّه.
(الشرف الرفيع)
تشبّثتْ صنّارةُ صيد السمك بأنف الكلب، وزيادة في الطّين بلّة تشبّثت به من الداخل، حملاه، الأبُ وابنُه، إلى مركز طبّ الحيوانات ـ محلّة "باكسلي" ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني. وتولّى الإبنُ مهمّة الشرح، بإعتباره يجيد الإنكليزيّة أحسن من أبيه الذي لا يزال في حال عسر لغوي وإن يفهم أحياناً بعض ما يسمع. وبعدما فهمتْ الممرّضة ـ البيطريّة حالَ الكلب الذي كم تأوّهت له، وقبْلَ إدخاله إلى غرفة العمليّات، طلبتْ روتينيّاً إسم الكلب وإسم عائلته. ومعروف أنّ إسم عائلة الكلب في أستراليا هو ذات إسم عائلة أصحابه، وليس في ذلك أي حرج. وفهمَ الأبُ السؤال. وقالَ لإبنه بصوت منخفض وحذر، وبالعربيّة طبعاً: "اعطيها إسم عيلة حدا غيرنا". ارتبكَ الإبن، فهو لا يرى حرجاً أن يحمل الكلب إسم عائلة أصحابه، ولا يكذب في آن، كما أغلب جيله الذي ينشأ في أستراليا، وبدون أدنى مبالغة. قالَ للسكرتيرة: "ماكس". وأمسك، ونظر إلى أبيه، وأبوه نظر إليه بتوتّر، وقال للممرّضة إسم عائلة ماكس. ولم يمض وقت حتى كان الأبُ والإبنُ، ومعهما الكلب المنشرِح بنجاحِ العمليّة، خارج العيادة، والأب يشدّد على إبنه ويقول: "ولكْ يا مجنون قلتلّك قلّها إسم عيلة حدا غيرنا رحت اعطيتها إسم عيلتنا؟، يعني بعد ناقصنا بالعيله كلب"؟!. وفي رواية، أنّهما، وهذه حالهما، كان الكلب يتشمّم ساقي أحد المارّة. وقال الأب لإبنه وهو يكاد ينهار: "إمسك خيّك يلعن بيّك قبل ما يعضّ الزلمي ويحطّوا صورنا بالجرايد والتلفزيونات وتصير فضيحتنا بجلاجل"!.
(كايسي وجنطاص ـ 1)
التقاها في "ديسكو ـ ملهى ليلي"، وما أكثر "ديسكوهات" سيدني ثمانينات القرن العشرين. أصله عربي ـ عدناني ـ سوري، وهي أصلها بريطاني ـ أنكلو سكسوني. دعاها إلى "الرقص"، أو إلى "حلبة الرفس"، كما قال. كانت الموسيقى صاخبة جدّاً، أي كما يجب في حفل شبابي، وخاضا في "داحس والغبراء"، أو "حرب البسوس"، ومن ثمّ صار الرقص "سْلُو ـ هادئاً ـ حالماً" والموسيقى على وقع خطى أثيريّة، أو الرقص على وقع أنغام متثنية. واقترب من الأنكلوسكسونيّة أكثر حتى التصق صدره بصدرها وسألها عن إسمها، قالت له وقد الصقت صدرها بصدره أكثر أيضاً: "كايسي". وفعلت ذلك مرّة تالية وسألته عن إسمه؟، قال لها، وقد أستوحى إسمه من إسمها، بعدما وضع كفّه على صدره المنفوخ فرحاً: "محسوبك جنطاص" ـ وعاء معدني أكبر من الكأس!.
(إبن جنطاص ـ 2)
"كايسي"، زوجة "جنطاص"، دخلت عيادة الطبيب الفلسطيني الأصل، المرحوم د. محمود الحوراني، الذي كان مهنيّاً شريفاً، كما يعرف جميع من عرفه في محلّة أرنكلف ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني، وماهراً، ومعها إبنها الصغير "جوما" ـ "جمعة"!.
ورأتهما السكرتيرة ليلى، واصفرّ لون وجهها، فما أن تجلس الأمّ إنتظاراً لكشف الطبيب، وتحمل مجلّةً، وتستغرق بالقراءة، حتى إبنها، قولوا، "يفلتْ.. على كيف كيفه". ومثالاً: ينتّف علبة المحارم، ينثر صندوق ألعاب الأطفال، أو يتقافز فوق هذه الكرسي وتلك. والحقّ أنّ أمّه كانت تسارع إلى لجمه، وإن بعد فوات الأوان مرّات. وما أن ترجع إلى كرسيّها وسيرتها حتى هو يرجع فوراً إلى سيرتِه، ولن يكون في هذه المرّة إستثناء.
استغفرت ليلى ربّها. ردّته أمُّه، وفي المرّة الثانية قامت ليلى ذاتها، عازمةً أن تلقّنَه درساً يكون هو الدرس، وقالت للأمّ، بإبتسامة ذكيّة، أن تظلّ، رجاءً، في مكانها، وختمت بفرح: "هيز سو كيوت" ـ "نعنوع"!. واقتربتْ منه وهو في زاوية، وعملتْ أنّها تحتضنه، وواقعاً هي تعتصره، وعملتْ أنّها تطبع قبلة صاخبة على خدّه، فيما هي تضغط "بوزها"، وأخيراً، وظهرها لأمّة، "فنجرت" له، "برّقت" عينيها، والأمّ لم تفطن. تملّكه الذعر، انخطف لونه، حتى خافت أن يُغمى عليه. وسرعان ما ابتسمت، حملته، وأجلستْه بلطف مبالغ به على كرسي، وقالت له إنّه إذا التزم وسمع كلام أمّه ستفي له بوعدها، وقالت للأمّ بعدما التفتت إليها وغمزتْها واثقة: "تمام". وهي تتّجه صوب مكتبها، قفزَ تاركاً كرسيّه وتعمشق برقبة أمّه.
وانتهى كشف الطبيب، وهي تفتح باب العيادة، لتخرج مع إبنها جوما، تذكّرت، وبادرت وسألت: "بليز لايلا" ـ رجاء يا ليلى، أصدقيني القول، بماذا وعدتيه حتى انقلب فجأة من عفريت إلى ملاك"؟. قالت لها، وقد علمتْ أنّها نجتْ مِنْ عاقبة عملها الشرّير: "وعدتُه إذا يسمع كلامك ويلتزمك أنّي، حين يكبر، سأتزوّجه"!. ونظرتْ إلى "جوما" متعمشقاً برقبة أمّه لا يزال، وقالت له: "وفي ليلة الدخلة سآكلك بالشوكة والسكّين"!.
(Dodi)
هاتفَ صديقَه، بعد سيل تلفونات إلى الأهل والأصدقاء وجميع المعارف في كلّ الولايات الأستراليّة وعموم بلاد الهجرة مثل أميركا وكندا وأوروبّا وإفريقيا والخليج، وإلى الوطن الأمّ لبنان بالتأكيد، ليبشّر أنّ زوجته، والحمد للربّ الكريم، قد أنجبتْ له "وليّ العهد". وسأله الصديق، بعد إبداء الفرح وتقديم التهاني وبعد مديحِ الظلِّ العالي وطربِ أبي فرج الأصفهاني والدعاءِ بدوام عزّ السلطان العثماني عن إسم المبارك، حفظه الله وشدّ أزره ونصره على كلّ أعدائه. قال بصوت أدقّ من رأس إبرة: "دُوْدِي"!.
(زواج مبكر)
والواقع هو مرّات كثيراً حقّاً أغرب من الخيال، ومثالاً لا حصراً ما حصل في حفل زفاف في قاعة الويستيلاّ ـ ليدكمب ـ جنوب غرب سيدني ـ صاحبها العصامي طوني خطّار ـ حيث "تعثّر" لسان معرّف الزفاف، وعوض أن يقول في ما كان يقول: "وفّق الله العروسين" قال، غفر الله له: "فرَّق اللهُ العروسين"!. وانتبه المدعوون وأهل العروسين، وصحّحوا له، وهو صحّح مدارياً خجلاً. قال خال العروس إنّه يعرف المعرّف خير معرفة، هو نذير شؤم. وتسامح الأهل ونسوا إلاّ خال العروس الذي قال لزوجته: "سجّلي". وانتهى الفرح، وكلٌّ بلغ بيته، وانتقل العروسان الجميلان اليافعان جدّاً إلى شقّتهما. وهما في "خلوتهما الشرعيّة" نظرا إلى الثريّا ولم تكن هي الثريّا التي رغبتْ بها العروس، لهذه خمس "لمبات" والتي هي رغبت بها لها ثلاث، وقالت إنّ أمّ العريس قد فرضت رأيها، قال لها العريس: "أمّكِ هي التي اختارتها"!، قالت له: "أمّك البلهاء هي التي اختارتها"!، قال لها: "أمّكِ هي البلهاء"!، قالت له: "بل أمّك"!، قال لها: "بل أمّكِ"!، قالت: "أمّك"!. واعتزلا حتى الصباح حين خرجت وهو خرج، وهي أخبرتْ وهو فعل مثلها، وصار "قيل وقال"، واختلط الحابل بالنابل، وانقطع حبل الودّ بين الأسرتين. وقال أهلها: "إبنتنا عندنا وإبنكم عندكم"، وقال أهله: "إبننا عندنا وابنتكم عندكم، ولولا إبننا ما عرفنا داركم ولا دخلنا بيتكم ولا رأينا وجوهكم".. إلخ. واستُجيب للعريف، وصدق خال العروس، وانفرط عقد زواج مبكر آخر.
(زلغوطة)
1 ـ "آويها لبّستِك الأبيض طيّه على طيّه \ آويها لبّستِك الأبيض يا نور عينييّ \ آويها اضهري من الدار وقولي بخاطركن \ آويها أنا غريبه وديروا بالكم عليّي" ـ وقلتُ لإبنة عمّي، وهي التي سمعتُ منها هذه "الزلغوطة"، خلال حفل عرس لأقارب في محلّة روكدايل ـ سيدني: "شو غريبه، يا بنت عمّي، وشو ديروا بالكن عليّي؟، خلصنا، بأستراليا الحاكمه.. الملكه"!. وفهمتْ، وقالت وهي تبتسم: "والله يا إبن عمّي كلامك درر"!.
2 ـ "آويها نحنا بيت المسلماني مين يقدر يخاصمنا؟ \ آويها لبّاسين الدهب بروس خناصرنا \ آويها طلبت من ربّ السما ينصرنا \ آويها نصره قويّه تجبر خواطرنا" ـ وقلت لإبنة عمّي، بعدما أنهت الزلغوطة هذه، في حفل زفاف أحد أبناء عمومتنا، وكنت منها سمعتها تردّدها قبل شهر في عرس لأصدقاء من آل "فرج"، وقالت يومها: "آويها نحنا بيت فرج".. إلى آخره "شو القصّة يا بنت العمّ، مين يقدر يخاصمنا، نحنا بيت المسلماني، أو مين يقدر يخاصم بيت فرج"؟. وتذكّرتْ بسرعة عجيبة، وفهمتْ، وقالت وهي تضحك: "يا إبن عمّي مع السوق بنسوق، منين بدّي جيب زلاغيط لكلّ عرس"!.
(موهمّد)
اشتهرتْ بين الأستراليين اللبنانيين ـ ستينات وسبعينات القرن العشرين ـ أسماء عربيّة لا صفة دينيّة أو مذهبيّة لها، ومع تراجع قوى اليسار والعلمانيّة في الوطن الأمّ لبنان، ومع تقدّم الدِّين في النصف الثاني من الثمانينات، أخذتْ هذه الأسماء بالتلاشي، لتحلّ محلّها أسماء من وحي ديني خالص، وأشهرها، وبلا منازع، إسم محمّد. وفيما أنا أعمل في محطّة سيدنهام للقطارات ـ سيدني ـ وإذ صبيّة أوروبيّة تسألني عن الرصيف الذي ينطلق القطار منه إلى محلّة "كرونيللا" الساحليّة. أعطيتها الجواب اليقين. وإلى حين مجيء القطار تحادثنا. وعلمتُ منها أنّها مِنْ أصل إيرلندي، وهي علمت أنّي من أصل لبناني، وهي معلِّمة في مدرسة "بالمور" الإبتدائيّة، و"بالمور" هي من الضواحي القريبة، ويكثر فيها اللبنانيّون الشماليّون، وخصوصاً من مدينة طرابلس وضواحيها. قالت كأنّما تذكّرتْ: "لديّ تلميذ من أصل لبناني سيكون له شأن"!. فرِحتُ بما سمعتُ وسألتُها عن إسمه فربّما أعرف أهله. قالتْ إنّ إسمه الأوّل هو "مُوهمّد" ـ محمّد. ثمّ وهي في حال من يتذكّر أكثر، وبدهشة، قالت: "أوه"!. ووضعتْ يدها على صدرها وأردفت: "ماي غاد"! ـ يا إلهي!. وقالت: لديّ خمسة أولاد ـ "فايف بويز" ـ في صفّي، وجميعهم من أصل لبناني، وفقط الآن انتبهت، جميعهم إسمهم الأوّل هو: "موهمّد"!.
(الحاج كارل ماركس)
قال إنّه دخل في الموعد المحدّد، وإنّ "كبيرهم" كان يقول، وإنّ أحداً مِنهم، ولا هو أيضاً، فهِمَ كلمة، وكان يعمل ما يجعلهم يسجدون، يضع إصبعه ـ السبّابة ـ في منخره حتى تختفي، ويفتح بطنه ويحمل أمعاءه ويقطع رأسه ويضع الكلّ على الطاولة أمامه. كان يتذكّر، ويحكي ما خبره في "سيراليون" ـ إفريقيا ـ مهاجراً، قبل هجرته إلى أستراليا، ولا يزال يصدّق ذاهلاً. و"اشتلق" "أبو رامي" المعروف بميوله اليساريّة أنّ الرجل في إستغراق مفزِع. وبادره، ظنّاً أنّه ينتشله من تيهه، وقال له: "وطبعاً أنت انتبهت في اللحظة المناسبة أنّك مسلم، وأنّ كتابك هو القرآن، وأنّ الرسول هو النبي محمّد "صلع"، وأنّ المحتال ذاك ليس سوى أفّاق، ولولا ذلك وقعت في حبائله كما وقع كُثُر قبلك وتمّ استغلالهم أبشع إستغلال". وكان صديق أبي رامي، وهو الحاج "أبو أسد"، حاضراً، وكلّما يبدي دهشة ممّا يسمع، فها هو أبو رامي يتحوّل، وفجأة، أو بقدرة قادر، من ماركسي، وكأنّما إلى داعية إسلامي، وقال له وسط ابتسام الحضور: "بركاتك يا حاج كارل ماركس". قال له أبو رامي بسرعة بديهة هو معروف بها أيضاً: "أنت من دون شكّ راسخ الإيمان، وتعرف أنّ الإسلام أو المسيحيّة أو الهندوسيّة أو البوذيّة.. إلخ، أفضل، وبما لا يُقاس، من دين ذاك الأفّاق، أم تريد أن تجادلني بهذه أيضاً عبثاً"؟!.
(الحمار والأسد)
أحد لم يفهم جملة من كلام البرلماني اللبناني، خلال حوار تلفزيوني ـ فضائي، حتى هو يتكلّم كأنّه أجنبي، وفقط يجيد من لغةٍ تعابير مكسّرة جدّاً، والأنكى أنّه نجح في الإنتخابات، فماذا قال لمنتخبيه، أو بالأحرى ماذا فهموا عليه، أم هي شهرة أسرته؟، أم هي كثرة أمواله؟. قالت سعدى، وهي تجلس إلى جوار أبيها، وكانت أمّها حاضرة، وكذلك أخوها الأكبر، إنّها لا تفهم كلمة من حديث سعادة النائب، وأضافت: "يا ريت بيحكي بالسنسكريتيّه، كنّا فهمنا عليه جمله"!. ولغاية في نفس يعقوب ابتسمَ الأبُ وقالَ لإبنته، آملاً أن تسمع زوجتُه وإبنُه الذي تزوّجَ بمباركة من أمّه من يابانيّة لا تفقه لا "بالمجدّره"، ولا "بالكبّه النيّه"، ولا "بالفراكه"، ولا "بالتبّوله" ولا "بالشحار اللّي يشحّرها": "يا بنتي قولي يا ريتو بيحكي ياباني، أقلّه ببيتنا صار في عنّا مين يلحقنا بالترجمه الفوريّه". وسمعت الأمّ، وفهمتْ أنّ الأب يريد الهزء، كلّما سنحت له فرصة. أمسكت جهازَ التحكّم عن بُعد، وجّهته صوب التلفاز، ضغطتْ أزراراً، انقلبت الشاشةُ إلى برنامج عن عالم الحيوان، وقالت، فيما تضع الجهاز إلى جوارِها: "الأعجم أفهم"!. وظهر على الشاشة أسدٌ يقبض بكمّاشةِ فمِه على فمِ زيبرا ـ حمار وحشي ـ عندَ ضفّة نهر، والحمار يتشبّث، ويتراجع بجهد خطوة خطوة، ليخوض في الماء ومعه الأسد القابض عليه بشراسة ولا يتركه بحال. وفطنَ الإبنُ إلى خطّة الحمار، وفي آن أراد أن ينسحب بالحديث ككلّ، منعاً من نشوب حرب وشيكة أمّه مستعدّة أو مستنفرة لها، إلى محلّ آخر. قال: "يا جماعه، شوفوا ما أذكى هالحمار، بدّو يغرّق الأسد"!. وخاضا الماء، وبلغَ الماءُ مستوى فم الأسد الذي اضطرّ أخيراً إلى رفعِ كمّاشةِ فمِه عن فمِ فريسته، وفاز، كما يُقال، من الغنيمة بالإياب سالماً، بعدما قفز إلى الضفّة وزمجر وكشّر لكرامته الجريحة!.
(النائب والعصفور)
"كان المكان، وكما قال صديقي الأسترالي، الأنكلوسكسوني، البريطاني الأصل، أضيق مِنْ خرم إبرة، وكان الجمهور أقلّ من عدد أصابع اليدين، وأحد المرشَّحين إلى مجلس الأمّة، أو اللّعبة ذاتها القائمة بعد على هذا النحو، قال فيهم: "إذا فزتُ في الإنتخابات أعدكم أنّي سأحثُّ النوّاب الزملاء على تشريع قانون يمنع هجرة الآسيويين إلى أستراليا". وإنتهى، وكلٌّ صار إلى شأنه، وهو سمع خوار جوعه. لم يكن بعدُ في الساعة تلك مَن لا يزال يخيطُ ثوبَ عشِّه سوى عصفور دوري آسيوي له مطعم قريب. قصده، جلس إلى الطاولة، طار إليه العصفورُ بجرادة، ثمّ بدودة، ثمّ بنملة أو بقّة، والتهمَ ما في الصحون، والتهمَ الصحون ذاتها، ودفع الفاتورة بأريحيّة، ثمّ، وهو يخرج، مسح على بطنه وقال حالماً: "حقّاً لا أشهى، في كلّ أستراليا، من الطعام الآسيوي"!.
(إتّحاد جمعيّات)
وصل إلى سيدني قنصل لبنان العام الجديد، وهو يستقبل في دارة القنصليّة اللبنانيّة مرحّبين به، وجلّهم من ممثِّلي الجمعيّات القرويّة. وفي اليوم الأوّل استقبلَ من ضمن الذين استقبلهم وفداً مِنْ ثلاثة أشخاص هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق جمعيّة بلدة "كذا"، وكانت له معهم دردشات ودّية. وفي اليوم التّالي استقبل من ضمن الذين استقبلهم وفداً يمثّل جمعيّة أبناء بلدة "كذا" ذاتها، ولكنّ الوفد مؤلّف مِنْ ثلاثة هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق غير السابقين. وإذا عُرف السبب بطُل العجب، وزال عجب القنصل العام عندما أوضحوا أنّ جمعيّة أبناء "كذا" السابقة هي جمعيّة أبناء "كذا" التحتا، وهذه جمعيّة أبناء "كذا" الفوقا، وكانت له معهم دردشات لا تقلّ وديّة. وفي اليوم الثالث رحّب بوفدٍ مؤلَّف مِنْ ثلاثة هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق، وطرق أذنَيه إسم جمعيّة "كذا" ذاتها، أخذته الدهشة، استأذن، انفرد بموظّف القنصليّة القديم وقال: "أوّل أمس جمعيّة "كذا" التحتا، وبالأمس جمعيّة "كذا" الفوقا، واليوم جمعيّة "كذا" ماذا؟!. قالَ الموظّف القديم مبتسماً: "هؤلاء، يا سعادة القنصل العام، هم ممثّلوا "إتّحاد جمعيّات بلدة "كذا". وكانت لسعادة القنصل العام الجديد معهم دردشات لا تقلّ، أيضاً وأيضاً، وديّة!.
(عصفوريّة باراماتا)
كلّ ما يلفت نظره سيتعلّمه، ولكن عوض أن يرسخ فيه سيهمله. أبواه يلمّحان له بوجوب الثبات، وأمّه تقول: "الطيز النقّاله مش شغّاله"!. وأخيراً عملا أنّهما "صمٌّ بكمٌ" ما دام يعمل وليست له إهتمامات "إنحرافيّة". ليرجع إلى البيت، في محلّة بانكسيا ـ سيدني، ومعه طبلة. و"خذوا" على "ضم ضم تك تك، ضم ضم أس تك، ضم ضم تك تك". أو "تك تك ضم، أس تك، تك تك تك، تك ضم". شهراً. وما أن تأفّف الوالدان حتى رجع ومعه منجيرة. و"خذوا على صفير". شهراً. ليرجع ومعه "غيتار". و"خذوا على طنين". وبعد 3 أسابيع تخلّى عن الغيتار لصالح الأوكارديون، وقال إنّه لزميله، فيما زميلُه إستعار الغيتار. وسمع الأبوان شقيقته تسأله عن سبب هذا التبادل؟. وسمعاه يقول إنّه وأصدقاء قرّروا عمل فرقة موسيقيّة، وقد رستْ عليه قرعة أن يكون "الغيتاريست"، فيما زميله عنده ألأوكّارديون فيكون "الأوكّارديونيست"، ورفض "الأوكّارديونيست" أن يكون "الأوكّارديونيست"، ولكي لا تفرط الفرقة اقترح رئيسها أن "الأوكّارديونيست" يصير "غيتاريست"، و"الغيتاريست" يصير "أوكارديونيست". ورجع ومعه "كمان". وقال لشقيقته التي سألته فيما تطوي أمّه الغسيل إنّه رفض الأوكارديون وحمل الكمان، وهو الآن "كمانيست"، والكمانيست أهم من الأوكّارديونيست والغيتاريست معاً. وخذوا على "زيق زيق، ميق ميق". وقالت الأمّ: "الصبي جنّ"، وقال لها الأب: "وإنشاء الله بتجنّي معه".
وكان الإبن قد رجع إلى البيت بالكمان ظهيرة يوم السبت، وفي صبيحة يوم الأحد خرج الأب ورجع بعد ساعتين لكي يرى ما طيّر عقله، ولو أنّ أحداً شاء أن "يعملها" معه لإتّصل بعصفوريّة "باراماتا" لكي تحمله عنوة. اصطدم عند مدخل البيت بساتر رملي، وعدد من قضبان الحديد منها الطويل ومنها القصير، وصفائح ذات أحجام من بعضها ينزّ زيت سيّارات ومن بعضها ينزّ زيت زيتون أو نباتي. ولم يفكّر ليؤكّد أنّها لإبنه الذي لم يكن حاضراً، ولكنّه سيرجع. ونظر صوب السماء وقال: "يا ربّ، مرّه.. (وأخذ يضرب الهواء بكفّيه عند خاصرته إشارةً إلى العزف على الطبلة) ومرّه.. (وأخذ يحرّك أصابعه أمام فمه كأنّه يعزف على المنجيرة) ومرّه.. (ومدّ يده اليسرى وراح ينقر الهواء بموازاتها كأنّما يعزف على الغيتار) ومرّه.. (ونفخ صدره، وجمع قبضتيه وباعد بينهما وقرّبهما، وفعل ذلك تترى، إشارةً إلى العزف على الأوكّارديون) وهلّق شو؟!.. (واستعرض عضلاته) وقال: "كمال أجسام؟! رفْع أثقال"؟!.
وفيما المارّة يتجنّبونه، مذعورين من حركاته، وصل الإبن، وفي آن أطلّت الأمّ واقفة عند الباب. وصمتَ الأبُ ثوان معدودات وقال بهدوء وصبر أيّوب: "والله يا إبني لا إعتراض منّي مبدئيّاً، بس والله أنا خوفان منّك بكرا على بنات الناس، يوم تحبّ البيضا، وتاني يوم تحبّ السودا، وتالت يوم تحبّ الصفرا أو الحمرا أو المزركشه. والله يا إبني حرام، ما بيصير هيك، دخيلك يا إبني ارحمني وإرحم المسكينه إمّك".
وكانت الأمّ عند الباب تنظر وتسمع، ويد فوق الثانية فوق بطنها، وتقول: "يا حبيبي يا إمّي إسمع، الله يرضى عليك، كلام بيّك"!.
(الغرلة)
أنجزَ الطبيبُ الأستراليّ، وهو سوريّ الأصل، مهمّته على أكمل وجه، وأخيراً أخذ الغرلةَ بمِلقط، ووضعَها في كيس نايلون صغير، قائلاً في آن للأبِ والأمِّ المنشرِحَين، وهما من أصل لبناني: "اعلما إنّ هذه القطعة هي من الجسم، ولها حرمة، ادفناها في التراب، وازرعا فوقها نبتة خيار ستنمو وستغدو شجرة موز"!.
ظهراً، اتّصلت أمّ الصبي هاتفيّاً بشقيقة لها وقصّتْ عليها زعم الطبيب وسألتها: "كيف نبتة خيار تنمو وتغدو شجرة موز"؟!. وعَصْراً رجعَ زوجُ الأخت مِنْ عملِه، قصّتْ حكايةَ الغرلة ونبتة الخيار وشجرة الموز، وانقلبَ على ظهرِه ضحكاً، وخصوصاً بعدما قالت، وهي يكاد يغشى عليها مِنَ الضحك أيضاً، وفي بالِها أنّ ما يجول في خاطر زوجها هو عين ما تهجس هي به: "فعلاً إنّه طبيب حمار".
وفي اليوم التالي التقى زوجُ الأخت صديقاً من الجالية السوريّة، ومن مدينة حمص تحديداً، والحماصنة مشهورون، زوراً طبعاً، بالسذاجة، وقصّ عليه، وضحكا معاً. وقصّ لحماتِه التي كانت ضيفة عليه في مساء اليوم ذاته، وهي علمت بأمرِ الطبيب وغرلةِ حفيدِها ونبتةِ الخيار وشجرةِ الموز، وقال إنّ صديقَه الحمصي يؤكّد أن الطبيب "يمزح". قالت، بعدما شهقت: "والله كلام صديقك الحمصي صحيح، والطبيب، أنا أعرفه، حمصي أيضاً، آه ما أذكى الحماصنه، يفهمون على بعضهم"!. وقصّ زوج الأخت لصديقه الحمصي استنتاج حماته، فقال الصديق الحمصي إنّه ليته يعرف من هم الحماصنة فعلاً، هم الحماصنة، أم اللبنانيّون هم الحماصنة؟.
ـ الغُرْلَةُ : جلدةُ الصبي التي تُقطع في الخِتان، والجمع: غُرَل!.
(صرصور مالبورن)
قرع بابَ بيت إبن عمّه في مدينة مالبورن، وهو بصحبة ضيف من سيدني يدعى جميل خليل، وكما كلّما التقى لبنانيّان تكون السياسة ثالثهما سرعان ما انزلق الحديث إلى السياسة. وارتفعت وتيرة الصوت بين إبنيّ العمّ، وكان الضيف بغاية الأدب، ويتجنّب ما يستطيع أن يكون له رأي، وليس من دون سبب. أخيراً قال صاحب البيت: "بدنا ندبحهن، وزغيرهن قبل كبيرهن". وقف ابن عمّه، قصد المطبخ، فتح جاروراً، رفع أكبر سكّين وقدّمها لإبن عمّه وهو يقول له: "تفضّلْ، قومْ.. بلِّشْ". وفي اليوم التالي التقى صاحب البيت بإبن عمّه في الشارع وقال له: "ولو يا إبن عمّي، لمّحلي، اعطيني إشاره إنّو صديقك مش من جماعتنا، والله دبت بتيابي وصرت قدّ الصرصور".
(وا ديباه)
أكبر تجمّع للأستراليين مِنْ أصل جنوبي لبناني يتواجد في منطقة "سانت جورج" ـ جنوب سيدني، وإلى سنة 1979 لم تشهد المنطقة إحتفاءً كبيراً واحداً بمناسبة عاشوراء التي يخلّد ذكراها المسلمون الشيعة الإماميّة سنويّاً أينما كانوا حول العالم. ووصلتْ موجاتُ الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أخيراً إلى سواحل شبه القارّة الأستراليّة، وبدأ بعض أبناء المذهب في مجالس عاشورائيّة، وعند محطّةٍ، يلقون على استحياء، وبغير إنتظام، أكفّهم على صدورهم. وردَّ البعضُ سبب ذلك إلى ضعفٍ في الإيمان، وكانت دعوة إلى التيقّن، ولتقويةِ الإيمان، وصار بعضُ الشبّان يتشكّل حلقات، وترتفع القبضات، ويلطمون صدورهم بإيقاعٍ متفنّن. وأخيراً تشكّلتْ حلقةٌ نسائيّة عملت ما يعمله ذكور ويندبن: "وا حُسيناه". وظنّت طفلة بمعيّة أمّها أن النسوة يغنّين. وتسلّلتْ إلى وسطهنّ، وأفردت ذراعيها الملائكيّتين بفرح ورقصت. وابتسم كلُّ مَنْ رأى، ما أحرج الأمّ التي قامت إلى طفلتها وأجلستْها إلى جوارِها وهي تقول لها: "اقعدي حدّي، فضحتينا". ولكنّ الطفلة لم تكتف، ولكي تزيد الطين بلّة، كما يُقال، قالت بصوتها الملائكي أيضاً: "ليش كلّن "واحسين" ـ و"حُسين" هو عين إسم أبيها ـ "مش "وا ديبه"؟ ـ عين إسم أمّها!.
(زغرودة بيروت)
لا إشارات سير ولا شرطة مرور، والسيّارات كلّ واحدة هي في مؤخّرة زميلتها. واشتعلت الزمامير. والأستراليّة ـ اللبنانيّة الأصل تزور وطنها الأمّ لبنان لأوّل مرّة منذ أكثر من عقدين. وهي في السيّارة، من مطار بيروت إلى محلّة زقاق البلاط، وجدتْ في الزمامير عرساً من أعراس لبنان الكبير قبل الحرب الأهليّة المشؤومة سنة 1975. أطلّت من شبّاك السيّارة إلى نصفها، ورفعت كفّها أمام فمها، وصدحت مزغردة زغرودة يُقال في بلاد مصر الحبيبة أنّها: "أطول من الطريق الصحراوي"!.
(زيت زيتون وماء زهر)
قرعَ بابَ البيت الذي انفتح، ثمّ وهو في مكانه قال لصاحب البيت، وهو يرفع أمامه زجاجة: "زيت زيتون أصلي، وصلتني منه باخرة، لم يبق سوى هذه القنينة، أعرضها عليك بعشر دولارات". أجابه بأريحيّة، وهو يعرفه: "سأشتريها، بشرط أن تشرح حقيقتها". قال بتلقائيّة وعفويّة عجيبتين: "كانوا صفّاً، في كامبسي ـ ضاحية من جنوب غرب سيدني، وقفتُ بالصفّ، وكانت جماعة "سيلفايشن آرمي ـ جيش الخلاص"، التي أعطتني إعاشة، وهي زجاجة زيت الزيتون الأصلي هذه". واستلم 15 دولاراً. وفي اليوم التالي قرع الباب ذاته، ثمّ وهو لا يزال في مكانه رفع أيضاً زجاجة وقال: "ماء زهر الليمون مئة بالمئة". وأردف أنّ "الحاج عمر ياسين" ـ عضو الجمعيّة الإسلاميّة في لاكمبا ـ سيدني ـ التي يكثر فيها ذوي الأصل اللبناني الشمالي والمسلمون من الجوار الآسيوي مثل أندونيسيا وماليزيا قد اشترى، وأنّ الشاعر شربل بعيني، صديق الغربة الطويلة، قد اشترى، وأنّ الكاتب والموظّف الإجتماعي عصام الكردي اشترى، وإذا لا يصدّقه يمكنه الإتصال بهم ويتأكّد. وطلب خمسة دولارات لا أكثر. قال له: "سأعطيك، بشرط أن تشرح حقيقتها". قال، وبعفويّة أسطوريّة أيضاً، إنّه عند مدخل مسكنه شجيرة ليمون، جمع من أوراقها وجعل ما جمع في وعاء امتلأ بالماء الذي كان يغلي فوق النار، وانتهى، وهو يرفع القنينة مجدّداً، مبتسماً وقائلاً: "نخبة ماء الزهر". أعطاه، وأغلق خلفه الباب شفيفاً، متعجّباً من أحوال بعض أبناء جلدته في سيدني.
(أُوكّي - OKAY)
ارتَكبتْ إسرائيل مجزرة في بلدة كونين ـ جنوب لبنان ـ الشريط الحدوديّ مع فلسطين المحتلّة ـ قضى فيها أكثر من 37 شهيداً. وبعد سنوات قليلة جرتْ إنتخابات نيابيّة في ولاية نيو ساوث ويلز، وهي إحدى أكبر الولايات الأستراليّة سكّاناً، وتضمّ ثلثي أبناء الجالية اللبنانيّة والعربيّة عموماً، وفازَ حزب العمّال الأسترالي، وفاز السيِّد باري أنزورث، رئيس الحزب، بمقعد روكدايل ـ سانت جورج ـ جنوب سيدني، متفوّقاً على خصمه، زعيم حزب الأحرار، بفارق مئات الأصوات فقط، وأصبحَ رئيس وزراء ولاية يزيد اليوم عدد سكّانها على 8 مليون نسمة من أصل 20 مليون نسمة ـ مجمل عدد سكّان شبه القارّة الأستراليّة التي تزيد مساحتها على 8 مليون كلم مربّع.
وكان السيِّد باري أنزورث قد رأى الحاجّة أمَّ شوقي مهنّا مسلماني تحمل ركوة القهوة اللبنانيّة الكبيرة وتوزّع على أنصار حزب العمّال وعلى مَن هي تشاء عند صندوق الإقتراع، وأعرب عن فرحه بذلك، ورأى كيف أبناءها يتفانون من أجل فوزه وينتقلون من مركز إقتراع إلى آخر. وجرى السعي عنده في ما بعد لإعطاء بعض أبناء بلدة كونين المنكوبة في لبنان تأشيرات هجرة إنسانيّة ـ إستثنائيّة إلى أستراليا.
والسيِّد أنزورث لم ينس ولا ينسى ولا يتناسى. وبمعيّة الوزير غاري بانش، صديق المحامي شوكت مسلماني ـ عضو بلديّة روكدايل ورئيسها في ما بعد، ثمّ نائباً في المجلس التشريعي للولاية، وذاته هو إبن الحاجّة أم شوقي ذاتها ـ وبمساعدة كريمة من المعنيين فيدراليّاً، ومِنَ السفير الأسترالي في لبنان السيّد ساندي فوكس، وفي حالة إستثنائيّة نادرة حقّاً، حازت التأشيرات 16 عائلة كونينيّة بكاملها، وأغلبها كبيرة ـ اللهم زد وبارك ـ وبكفالة الكونينيين الأستراليين الذين منهم الحاج شاهر علي مسلماني "أبو شوقي".
ولكنّ الجنسيّة الأستراليّة لا يحوزها المهاجِر إلى أستراليا إلاّ بعدَ إقامة تزيد على سنتين، وبعدَ جلسة أسئلة وأجوبة سابقة على حفل تكريم يُقام خصِّيصاً للمناسبة. واستحقَّ موعِد جلسة مَن بالكاد تعلّم جملتين باللغة الإنكليزيّة، وهو مكفول من الحاج "أبو شوقي"، وكان لا بدّ أن يرافقه مترجم. وسأله الموظّف الحكومي المختصّ خلال الجلسة إذا يحبّ أستراليا؟، أجاب بالعربيّة، وترك للمترجم أن يترجم: "أحبُّها حبّاً جمّاً". وسأله إذا تعرّضتْ أستراليا لعدوان خارجي هل هو مستعدّ للدفاع عنها؟، أجاب أنّه وزوجته وأطفاله سيكونون، بعون الله تعالى، في "أوّل الجبهة". وابتسم المترجم. وابتسم الموظّف الحكومي الذي سأل السؤال الثالث والأخير، كما قال: "ما إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"؟. وخيّل لحبيبنا أنّه فهم السؤال، لم ينتظر الترجمة لكي يُثبِتْ أيضاً أنّه تعلّمَ من الإنكليزيّة الكثير، وإن يظلّ بحاجة إلى مترجم. وقال هكذا: "أبو شاكي موسوليني ماني". لم يفهم الموظّف الحكومي، نظر إلى المترجم وسأله عمّا سمع؟. استدرك المترجم، وقد كان نبيهاً، وقال لإبن جنسه: "إنّه لا يسألك عن إسم كفيلك إلى أستراليا أبو شوقي مسلماني بل عن إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"!. قال مرتبكاً: "آه"!. وبسرعة رفع إصبعه، وعوض "بوب هوك"، وهو الإسم، قال "هوكبوب". وابتسم الموظّف الحكوميّ، وربّما كتم ضحكة فاقعة، ونظر أمامه إلى ورقة على الطاولة، وحمل الختم الكبير، وقال وهو يهوي به: "OKAY".
(حبقات سيدني)
رنّ الهاتف في ركن من البيت مرّة بعد مرّة، وأخيراً رفعت السمّاعة طفلة وقالت: "ألو"، وردّاً على سؤال قالت: "ليلى"، وردّاً على آخر قالت: "Good"، وردّاً على ثالث قالت: "ماما مش هون"، وأخيراً: "بابا بالجْنَينِهْ عمْ يِسْقِي الأحبات".
ـ و"الأحبات" باللهجة اللبنانيّة أي "القحبات" بالعربيّة الفصحى!.
(مالطيّز)
نظرَ، وهو خلف المقود، في مرآة السيّارة الصغيرة أمامه، قبيل الإنطلاق، ورأى إبنه في المقعد الخلفي من دون حزام الأمان، ويطلّ من النافذة، نبّهه: راسكْ إنسايد ـ "إلى الداخل"، إرفعِ الويندو ـ "النافذة" وحطِّ البَلْط ـ "حزام الأمان"!.
(ابتسامة مجنونة)
يجلسان متجاورين، فيما "الأوكشينير" ـ الدلاّل الأسترالي، الإنكليزي الأصل، "يرشّ" الكلام كأنّه معلِّق سباق خيل أو كلاب. قالت العجوز، وهي أستراليّة من أصل صيني، لمواطنها الأسترالي من أصل لبناني، وهو عين أخي محمّد، أو "مو"، أو "موهامد" كما يناديه أصدقاؤه الأستراليّون، وبصوتها الخفيض، إنّها لا تلحق ما يقول الأوكشينير!. وكأنّما هي عصفور ووقع في الفخّ، قال لها ببديهة هو معروف بها: "الأوكشينير هذا عنصري، إنّه يكرهك لأنّك صينيّة". قامت من مقعدها، مشت بطيئة، اقتربت من الدلاّل الذي انحنى لها من منصّته وأعطاها أذنه، وقد لحظ أنّها تريد أن تقول له شيئاً، سألته بصوتها الخفيض: "لماذا، حقّاً، أنت تكرهني"؟!. أخذته الدهشة، سألها عمّن يكون قد قال لها ذلك؟، أشارت صوب محمّد وقالت: "مو"!. أدرك "الأوكشينير" كيد صديقه "موهامد"، وقال للعجوز بصوت مسموع، وهو ينظر في آن صوب محمّد الذي أعطاه طرف خدّه، عاملاً أنّه ينظر إلى ناحية كأنّه غير معنيّ: "مو فول أوف شيت" ـ براز ببراز. وسمع "موهامد"، والتفت إلى السقف، ومضى بسرعة صوب الباب يريد الخروج، وابتسامة مجنونة تصل إلى أذنيه.
(الأخوان والبحر)
قصدا البحر لصيد السمك، وكان البحرُ سخيّاً مع عادل ـ "أبو مصطفى"، وهو الشقيق الأصغر، أعطاه 3 سمكات "بريم" ـ سرغوس، 4 "تايلور" ـ غمبار، 2 "سنبّر" ـ جربيده أو فرّيدة، وكان في آن غاضباً من عدنان ـ "أبو سميح"، الشقيق الأكبر، حيث لم يهبه البحر ولو سمكة صغيرة واحدة.
قال عادل لعدنان، وقد التقيا في دكّان، إنّه قصد بيت الوالدين في محلّة "كارلتون" ـ وهي من نواحي سيدني ـ وقال لهما، عندما سألاه عن رحلة الصيد، إنّ أخاه اصطاد على قدر نيّته، وإنّ والده سأله عمّا قصد، فأجابه أنّ البحر كان كأنّه يعلم ما سيقوله بهبة ما سيصطاده فلم يهبه ولو سمكة صغيرة واحدة، وأضاف أنّ شقيقه بالحقّ قال مبدئيّاً: "مليح"، ولكن ما لم يعجبه منه هو خوفه الذي أبداه أن يبيع الوالد السمكات ويضع ثمنها في جيبه عوض الإغتذاء عليها مع الوالدة، وأنّ للوالد في ذلك سوابق. وغضب الوالد لمّا سمع ما سمع، وقال إنّه ستكون له مع عدنان كلمة، وإنّ أمّهما نهرته وقالت له بنبرة: "سدّ بوزك". ابتسم عدنان لغرائب وألاعيب شقيقه، وفي آن، بمرارة، وقال: "الله يسامحك. هلْ مزحْ إِلو تبِعاتْ. الوالد كبر بالسنّ وصار سهل يصدّق كلّ شي"!. وافترقا كلٌّ إلى بيته وأسرته، ولكنّ الشقيق الأكبر سرعان ما انحرف قاصداً بيت الأهل وأوقف السيّارة في المدخل.
كان الجوّ كما يُقال "مكهرباً"، سارع، بعدما ألقى السلام وجلس حيث يجلس عادةً وقال من فوره إنّه بالأمس ذهب مع شقيقه لصيد السمك، وإنّ البحر كان سخيّاً مع عادل ومتباخلاً معه شخصيّاً، وإنّه واقعاً أثنى على فكرة هبة الصيد، إنّما أسف لسوء نيّة شقيقه الذي تخوّف من إعطاء السمكات للوالد فيبيعها ويضع الثمن في جيبه عوض أن يغتذي عليها مع الوالدة، وللوالد في ذلك سوابق. وسأله والده، ويكاد الشرر يتطاير من عينيه: "وحضرتك شو قلتلّه لمّا سمعت هل حكي منّه"؟، قال: "قلتلّه: سكّر بوزك". وقام الأب من مجلسه إلى الهاتف، واتّصل بعادل أن يترك كلّ شيئ في يده ويحضر، وطلب من عدنان، بحضور عادل، أن يعيد ما سبق دون زيادة أو نقصان.
ولاحظ عادل أن أمّه وأباه ينحازان إلى عدنان، ويبدو له كأنّما السحر ينقلب على الساحر، قرّر الفرار، كما سيرة الدجاج، إلى الأمام، وطلب من أخيه الأكبر أن يقسم على القرآن تأكيداً أنّ كلامه صحيح، قال له: "رح إحلف، بس بالأوّل، قدّام بيي وإمّي وألله اللي سامعك وشايفك، بتحلف إنت على القرآن إنّك اللي سبق منّك، يا شيطان، صحيح". أسرع عادل صوب الباب يريد الهرب، وقال مدركاً أنّ مزاحه كان جرعة زيادة، مع ضحكة لم تنجح في إخفاء الحرج: "هُؤْ هُؤْ!، ما عاد حدا يقبل المزح بهل بيت"؟!. وفرّ.
(يوم السمك)
وصلتهما أخيراً "معلومة" أنّهما حيث يصطادان السمك لا فائدة البتّة من أطعمة السّردين أو اللّحمة الحمراء أو اللحمة البيضاء أو أمعاء الدجاج.. إلخ، ولا ينفع سوى "الدود" الذي هو عموماً جيّد للعديد من أنواع السمك.
وهما عند مفترق محلّة "كاييما" ـ جنوب سيدني، أوقفا السيّارة ودخلا محلاً مخصّصاً لبيع كلّ ما له علاقة بصيد السمك. وقرّر "أبو سمير" أن لا يشتري الدود الغالي الثمن، وقال إنّه سيكتفي بما معه من أمعاء الدجّاج التي يحصّلها بالمجّان من مذبح الدجاج، حادساً أنّ زميله "أبو فوزي" سيشتري، يعني قرّر في داخله أنّه ما دامت النتائج غير مضمونة فمن الأفضل أن يكون صديقه حقل تجارب، فإذا أفلح الدود سيقترض منه دوداً وسيشتري في المرّة الثانية، وإذا لم يفلح، وهذا ما يتوقّعه، اعتباراً أنّ السمك ـ وهذا بسبب من جهله ـ إذا كان موجوداً سيلتهم كلّ ما يُعرَض عليه، سيكون أيضاً قد احتفظ لذاته بالدولارات التي كان سيدفعها عبثاً. وصدقَ ظنُّه، واشترى أبو فوزي متمنياً أن يفلح الدود، لكي يتفاخر على أبي سمير، وأيضاً لكي يُشعره، في آن، بالغيرة، وسيقف متفرّجاً عليه كيف هو مهموم، ثمّ سيقول له إنّه لم يشترِ الدود لكي "يدكّ في القصبه" ـ ممسكاً أمواله دون أن ترى النور.
لم يفلح الدود، ولم يجذب سوى سمكتين صغيرتين من نوع يُقال له في أستراليا "وايتن" ـ وهو سمك لذيذ، شبيه سمك العرموط: "اللّي بياكل منّو ما بيموت" كما نودي عليه في سوق سمك بيروت القديمة. لاحظا معاً هذه النتيجة المؤسفة، ولكن في آن لفت نظرهما أنّ الدود قد جذب على الأقلّ حقّاً نوعاً من السمك لم يعهداه عند هذا الشاطئ.
وبعد يومين قرّرا معاودة الصيد، وقصدا الشاطئ ذاته ومعهما زميل لهما، وهو ناصر، الذي سمع منهما ما تناهى إليهما وسمع أيضاً عن وجود سمك "وايتن"، واستصوب الدود، فما يصطادونه عادة عند هذا الشاطئ بأمعاء الدجاج، مثالاً لا حصراً، ليس موسمه، وربّما السمك غير المعهود، ولسبب ما، هو الموجود، وهو في آن، ربّما، أكثر ما يقبل على الدود، والدود، كما ذكرنا، جيّد للكثير من أنواع السمك. وحدسا أنّ صديقهما سيشتري، واتّخذاه معاً، هذه المرّة، حقل تجارب.
دخل ناصر إلى المحلّ، واشترى دوداً، وانتشل أوّل سمكة وايتن كبيرة، فرحا له فرحاً، وانتشل الثانية ـ توأم زميلتها، فرحا له فرحاً، وانتشل الثالثة، وهي حرزانة، وأيضاً فرحا له إنّما هذه المرّة بحماس أقلّ بشكل واضح، وانتشل الرابعة والخامسة وهما يحدّقان ذاهلين، لم يسحبا بأمعاء الدّجاج اللعين ولا حتى سمكة صغيرة واحدة، ولم يتجرّأ أحد منهما أن يسأله دودة، يعرفانه، سيسمعان منه كلاماً لا يودّانه، وهو من جهته لم يعرض عليهما، لأنّه شاء، على ما قال، أن يلقّنهما درساً يكون هو الدرس ويغيّر من حالهما.
كان يصطاد بثلاث قصبات، مثلما يفعل كلّ من الزميلين، فالواحدة "منصوبة" في الرمل بعيداً من أختها أقلّه ثلاثة أمتار. ومن دون أن ينتبه، وفيما هو يعالج قصبة، معطياً ظهره لصديقيه، انقطع خيط قصبة، أكّدا أنّ سمكة كبيرة قد قطعت الخيط، وفيما هو يُصلِح حال القصبة، ويربط الصنّارة وظهره إلى أحد صديقيه لا يرى ما يجري خلفه طارت القصبة الثانية من منصّتها وانغرزت في الماء، أكّدا أنّه من عمل سمكة عملاقة، وخاض في الماء وأمسك قصبته ولم تكن فيها سمكة، ولاحظ أن الطعم، ويا للعجب، غير ملموس، التفتَ لصياح زميليه أن يلحق، فسمكة ضخمة جذبت قصبته الثالثة، اقتلعتها من منصّتها، أهرعَ صوبها، لم تكن فيها سمكة، والطعم أيضاً لا يزال كما هو غير ملمسوس!.
تقاذفته الظنون السوداء أن يكون لزميليه يد في ما يجري، قرّر أن لا يحيد النظرَ عن قصباته، واصطاد سمكة موسى كبيرة، ولاحظ كيف أبو فوزي يرمق أبا سمير بكراهية، وكيف الأخير يخفض رأسه مقهوراً.
(الطبقيّة)
"كم ثمن سيّارتك؟ سأله، وهما يخوضان في جنس الملائكة، أي في محيطات رمل السياسة اللبنانيّة، قال: "3 آلاف دولار، لماذا هذا السؤال"؟، قال: "هل تعلم كم ثمن سيّارتي"؟، قال: "ما أدراني بثمن سيّارتك"؟!، قال: "35 ألف دولار"، قال، وهو في حال حنَق: "وما علاقة ثمن سيّارتي بثمن سيّارتك بحديثنا"؟، قال: "متى ستفهم"؟، قال: "أفهم ماذا يا هذا"؟، قال: "أيّنا الأفهم"؟!.
(الحبّ!)
انكسرتْ يدُه وتمنّعتْ زوجته أن تفرك له ظهره، قال، وهي تعلم أنّ سيدني تعجّ بعيادات طبّ الحيوانات: "اسمعيني جيّداً يا زوجتي ولك الأمر الأخير، سأتّصل بعيادة طبّ الحيوانات وسأقول: "دخيييلكن، أنا مخلوق بسيط انكسرتْ إيدي وبدّي مين يحمّمني، وراح يبعتولي، الله وكيلِك، اللّي أخلقِك، ممرّضه ـ ملكة جمال، وْرَحِ تحمّمني وتفركلي ظهري وتنشّفني وتجيب كولونيا باريسيّة وتعطّرني.."، وقبل أن يتمّ كلامه قاطعته، وقد أهرعت تحمل الصابونة واللّيفة، وهي تشهق وتقول وأعمار الزوجات الفهيمات تطول: "جاييتك يا نور عينيّ"!.
(ثلاثة)
قال أوّلهم مضيفاً: "عرضوا عليّ فتاةً، لم أوافق، وعرضوا عليّ عوضاً 12، قلت: لا!، والحقّ أن الهوى وقع على الأولى"!. وقال: "قالت إنّا "عطلجيّة"، و"سألتُها رقم هاتفها".
"اتّصلتُ بها، حملتُ إليها حقيبتين "تطفحان" بالدولارات، دخلتُ "شاحطاً" الحقيبتين، سألتني عنهما". وقاطعه الثاني قائلاً: "دوري من بعدك".
تابع الأوّل: "وسألتْني، قلتُ: افتحيهما، وما أن فتحت الحقيبة الأولى حتى "أندلقت" الدولارات، وهي شهقت، وكذلك حصل وهي تفتح الحقيبة الثانية. قلتُ: هل لا تزالين عند معتقدك؟، قالت: "لم أقصد"!. قلتُ: خذي الحقيبتين واشتري لنفسك شِقّة تطلّ على البحر!. أخذتْهما وقالت: "تشرب شاياً؟، وعندي من الشاي الأخضر"!. قلت: أشرب من الشاي الأخضر".
وخرجنا من شقّتها، فهي تعتذر أنّ لديها طفلين، وعليها أن تجلبهما من المدرسة، وبالطريق ستمرّ على "هير بوي فرند" ـ صديقها ـ صاحبها، يكون قد انتهى من دوام عمله"!. وقال الثاني: "وأنا أواعدهنّ ولا أذهب إلى الموعد، وكثيراً ما تكرّر ذلك، وكنّ يقلن لي: "انتظرناك، لم تأت، ماذا حصل"؟. والثالث ـ حضرتنا ـ يسمع، يوافق، يعارض ويسدي النصح!.
(القطب الجنوبي)
من ردّة فعله الأولى عرفت "مستواه"، على رغم أنّه أستاذ جامعي. فخلال حديث عن أستراليا أطلعته أنّ حجم القارّة الأستراليّة قد تضاعف، تقريباً، بين ليلة وضحاها، عندما ثبّتت الأمم المتّحدة لأستراليا أكثر من 5 مليون كلم مربّع من مساحة القارّة القطبيّة ـ الجليديّة الجنوبيّة. ابتسم بلا مسؤوليّة وقال: "وشو الإفاده ما كلّها تلج"!.
(عالزيرو)
استوى على كرسي الحلاقة وقال للحلاّق: "لا ألحق أن أقصّ شبراً حتى ينمو شعر رأسي متراً"!. قال له الحلاّق، وهو ينظر إليه خلل المرآة الكبيرة أمامهما، ويمسح في آن على أمّ صلعته: "أنا شملني الله، وله الحمد، برحمته". قال: "أنا يطيل لي الحبل"!. قال: "لا يبتلي حتى يسارع بالرحمة". وقصّ بالمقصّ شنب الهواء وقال: "نتّكل"؟. قال: إنّما "ع الزيرو ـ الصفر".
(شجرة بطم)
يتردّد "أبو قاسم" على حديقة كبيرة في محلّة روكدايل ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني لا للتمتّع بجمالها ورقّتها بل لأمرٍ لم يتخيّل يوماً، وبعد مضيّ أكثر من عقدين له في أستراليا، مهاجراً من بلدته الحدوديّة مع فلسطين المحتلّة ـ جنوب لبنان ـ أنّه سيحظى فيها أخيراً على ما يشتهيه ولا يناله بحال.
كان يرجع من الحديقة إلى بيته بقطوف "بُطُن" ـ بطم ـ "عصفوري"، ويُقال له "عصفوري" لطراوته، والبطم عموماً كان كثيراً في جنوب لبنان، ومنه أنواع، ولكن أكثره جرى قطعه منذ خمسينات القرن الفائت إفساحاً لزراعة الحبوب والتبغ.
وكتَمَ ما اعتبره سِرّ الأسرار حتى عن زوجتِه التي مراراً سألته من أين يأتي بهذا البطم؟، ودائماً يقول لها إنّ صديقاً أستراليّاً ـ يوناني الأصل ـ يعطيه من شجرة بطم موجودة في حديقة بيته الخلفيّة، لمعرفته أنّه مغرم بالبطم، وأنّ البطم يذكّره ببلدته وبوطنه الأمّ، وهي تقول له: "ويْلي من كيدك"، وتلتهم حبّاتٍ خضراء، طريّةً، لذيذة.
ومرّة، وهو يقصد الحديقة لغايته ذاتها، رأى إمرأةً، "زيّها" أنّها عربيّة، ولربّما لبنانيّة وجنوبيّة تحديداً، تقف عند الشجرة، تتذوّقُ بفرَح. تغضّنَ وجهُه وانقبضَ صدرُه موقناً أنّ سرّه قد انفضح وأنّ الشجرة التي لا تزال شجيرة، كما يظهر من جذعها الشابّ وحجمها الضئيل، لم تعد حقّاً له وحده، ولكن لم يعدم حيلةً ارتجلها وقرّر أن يعمل بها.
قصدَ مقعداً قريباً من شجرة البطم، نظر إلى المرأة نظرة من يراها وكأنّها ترتكب منكراً، هي فعلاً شعرتْ بذلك، فهذه شجرة زينة في حديقة عامّة وليست لنأكلها. استبدلتْ وجهَها الهاشّ والباشّ بوجهٍ يدّعي عدم الإهتمام واستبدلتْ يديها المرتاحتين بيدين متثاقلتين وفمَها المشرَّع بآخَر موصود على ما فيه.
وأشكل عليها جنسه، شعره كستنائيّ، لون بشرته خمريّ، يوجد لبنانيّون مثله، ولكنّه قد يكون من بلد أوروبّي شرقي، كما افترضت، ولو هو إبن عرب ما عاملها حقّاً على هذا النحو القاسي. وأيضاً من جهته نظر إليها مجدّداً متجهّماً، ارتبكتْ وعملتْ أنّها لم تلحظ، آملة أن تنسحِب ببطئ، ولم يكن ذلك كافياً، كما فكّر، لا بدّ أن "يقطع رجْليها"، كما يُقال، فلا تعود بعدُ إلى الشجرة، بل لا تعود إلى الحديقةِ كلّها، وتجهّم أكثر، وهزَّ رأسَه بعنف، ووقف ثمّ جلس بسرعة كأنّه كان يهمّ أن يعمل شيئاً رهيباً ثمّ تراجع فجأة. أعطتْه ظهرَها وولّتْ مسرعة وهي تتلفّت مخافة أن يكون المجنون يتبعها.
وقصدَ الحديقة ظهيرة اليوم التالي، أي في الوقت المعلوم، أي في وقت يكون أقلّ الناس المتنزّهين، ووجد أنّ شجيرته قد نُهبت نهباً، ولا حبّة بطم واحدة بعدُ فيها أو عليها، أكله اليأس، وأيقن أنّ اللّعينة ـ المرأة تلك ذاتها ـ قد عملتها إنتقاماً منه، وهي فعلاً بريئة، والأمر هو أنّه وثق بي شخصيّاً، بقّ البحصة أمامي، قصّ ما كان من أمره مع تلك المسكينة، استنكرتُ عمله وإن ضحكتُ له، وقلت لذاتي إنّي يجب أن ألقّنه الدرس الذي هو الدرس.
واقتنصتُ الفرصة، وسبقته في اليوم التالي إلى الحديقة، عثرت على الشجرة، قطّفتُ عامداً متعمّداً كلّ ما عليها حتى لم تبقِ حبّة بطم واحدة، ولم تكن كلّها مستوفية، وقصدني، وحكى لي مصيبتَه بعمل غريمته، قلت له، كاتماً سعادة: "الله يلعنها، إنشالله كلّ حبّة بطن سمّ ببطنها". قال وهو يهزّ رأسه موافقاً: فعلاً "إنّ كيدهنّ عظيم"!.
(بالسلامة)
غادرنا أبو مالك بالسلامة من سيدني في زيارة إلى الوطن الأمّ لبنان، وسرعان ما طيّر أخباراً عن "مشاكل عويصه" بينه وبين هذا وذاك وذيّاك هناك، وهو في بيروت كما وهو في قريته ـ جنوب لبنان ـ لا يكره مثلما يكره ضروب النصب والإحتيال، وردّة فعله، آنئذ، تحت تأثير "ضغط الدمّ" و"السكّري"، عين ثالثة الأثافي. وغالباً، لسذاجة متداخلة مع ثقة نفس عالية، يتورّط بمشاكل ليس له فيها، وعلى ما يبدو لن يتحرّر ممّا هو فيه يوماً. وتكرّرت زياراته إلى الوطن الأمّ، وتكرّرت أخبار مشاكله، وأخيراً سأل صديقٌ صديقه، في سيدني، عنه، قال إنّه في لبنان، وسأله غامزاً: "أيّة أخبار"؟!. قال، وهو ينظر إلى ساعة يده: "للتوّ يكون قد وصل والدنيا بعد ليل، سيطلع النهار وستأتي الأخبار"، وأردف أن: "إبنه أخبرني أنّه غادر سيدني ومشكلة جاهزة بينه وبين إبن مختار الضيعة"، وختم أنّ ابن المختار هذا قد "نصب عليه 200 دولار" ويريد حقّه منه للتوّ، حالاً وفوراً.
(أبو الجماجم)
إسمه سلطان، وهو معروف بين أصدقائه بخياله الواسع، له شِقّة في ضاحية بيروت الجنوبيّة يتبع لها كاراج أو مرآب يركن فيه سيّارته الصغيرة التي يستخدمها كلّما طار من سيدني إلى لبنان. وهو عموماً تاجر أحذية بكميّة محدودة. وفي عام 1993، وكانت إسرائيل لا تزال تجثم على صدر الشريط الحدودي اللبناني مع فلسطين المحتلّة، شاء أن يقود السيّارة إلى قريته الواقعة "داخل الشريط"، معتقداً، كما قيل، أنّه سيمكنه الإستحصال على تصريح دخول إلى بلدته من أوّل حاجز سيصادفه تديره عناصر لبنانيّة متعاونة مع إسرائيل بإشراف ضبّاط مخابرات إسرائيليين.
وهو عند "كوع" بين المنخفضات والجبال والهضاب، يتنشّق الهواء الذي يشفي العليل، وعلى مشارف الشريط، وجد ذاته "وجهاً لوجه" مع رتل دبّابات ميركافا ـ الدبّابات الإسرائيليّة الضخمة، وهو مشهور بإسم "أبو الجماجم"، لم يشأ أن يفوّت الفرصة، ومن لا يعلم، كما قال، إنّه وهو في لبنان لا يتجوّل من دون سلاحه الفردي؟.
وأفرد يده نحو المقعد الخلفي، وتناول، هكذا، قاذف "بي سفن"!، وفجّر أوّل دبّابة والثانية والثالثة، وقرّر الهرب عائداً من حيث أتى، باعتباره قد انكشف.
وأسرع إلى السيّارة، شغّل المحرِّك، دفع الغيار "بريميير" ـ أي الأوّل، لم تتحرّك. حاول من جديد، وعبثاً، وجعل الغيار "دوزيام" ـ الثاني، و"تروازيام" ـ الثالث، ولا جدوى، السيّارة لا تتحرّك.
جعل الغيار "أنريه" ـ رجوعاً، رجعت السيّارة، وظلّ يقودها هكذا مجتازاً المرتفعات والمنعرجات والمنخفضات أكثر من 35 كلم، أي إلى مدينة صور، وفي صور قصد محلّ "ميكانيك"، وعالج "الفيتاس"، وانطلق إلى بيروت فالضاحية الجنوبيّة، وركن السيّارة وفتح باب الشقّة وفتح علبة سردين وكسر رأس بصل أحمر واستلقى في السرير يريد أن ينام "ولا مين شاف ولا مين دِرِي"!.
(جَهْشَشَا!)
كانوا ستّة أستراليين من خلفيّات جنسيّة متعدّدة في غرفة الحرارة "Sona" ـ أكواتك سنتر ـ محلّة هيرستفيل ـ سيدني، وقال اللبناني الأصل لإبن جنسه، مشيراً بخفية إلى اليوغسلافي الأصل: "عجيبي يا زلمي إلاّ بدّو يعرف شو إسم أنثى الجحش، وأنا قلتلّو جحشه وهو يقلّي: جهششاه؟، إسمع".
وقال بإنكليزيّته لليوغسلافي: "يا جهش، وات فيمايل ـ ماذا مؤنّث ـ "جهش" يا جحش"؟. قال اليوغسلافي بغير إهتمام وعلى نحو مفاجئ: "هُوْمَارهْ" ـ حمارة!. قال اللبناني الأصل لإبن جنسه المتفاجئ: "كيّعني، آخر الشي أنا علّمته كلمة حماره".
ودخل على خطّ الكلام مَن أصله هنديّ وقال بإنكليزيّة فصيحة ولهجة حصريّة، وهو يحرّك رقبته ويهزّ رأسه يميناً وشمالاً: "هل تعلمون من هو رئيس الشرّ في الأرض"؟، وأجاب ذاته: هو "جورج دبليو بوش"، وأضاف من دون مقدّمات أو مطوّلات: "سأقصّ عليكم هذه القصّة: كان ما كان في قديم الزمان قرية دوّخها نمِر كلّما ينقضّ على مواشيها فيما باءت كلّ المحاولات لردعه إلى فشل، وأخيراً قال كبير القرية: "يجب أن نستعين بصيّاد النّمور المعروف وهو من قرية "كذا" البعيدة"، وقصده، ورجع وهو بمعيّته، والصفقة هي: أن يأكل الصيّاد هو وأسرته وينامون، مع أجر مقطوع يومي، إلى حين إصطياد النمر.
وأظهر النمِر ذكاءً خارقاً في إجتناب كلّ الحبائل التي يقع فيها ربّما حتى الصيّاد المشهور ذاته، ولكن أخيراً وقع كما كان يجب أن يقع ولو طال الزمن، وماذا فعل صيّاد النّمور؟. وهو يواجهه التفت يميناً ويساراً، وحين آنس خلوّ المكان ممن قد يكون يراه فكّ أسر النمر مطلقاً سراحه". وسأل الهندي الأصل أيضاً وعيناه متّسِعَتان: "من منكم يعرف لماذا فعل الصيّاد ما فعل"؟. قال البريطاني الأصل بإستهزاء: "وهل هذا سؤال؟، هي المصلحة، إذا انتهى النمر سيفقد الصيّاد أجره اليومي" هزّ الهندي رأسَه موافقاً وملاحظاً سخرية البريطاني، وسأل مجدّداً: "مَن يعرف إسم صيّاد النمور"؟. قال اليوناني الأصل بسرعة فائقة: "جورج دبليو بوش"، وأضاف: والنمر هو أسامة بن لادن".
قال اللبناني الأصل، وهو يسمع إسم الرئيس الأميركي: "آي هايت دبليو بوش، هِيْ أولويز بايست تو أميركا" ـ أنا أكره بوش الإبن، هو دائماً متحيّز لأميركا". استغرب الهندي حجّة اللبناني ليكره "بوش الإبن"، فإذا الأخير لم يتحيّز لأميركا، وهي بلده، وهو رئيسها، لمن إذن يجب أن يتحيّز؟. وشاء أن لا يرحمه. وسأله إذا حقّاً هو لبناني، فاللبنانيّون معروفون، كما قال، بالذكاء!.
انتبه اللبناني إلى هفوته، وكان المفترض أن يقول بكراهيّة بوش الإبن لأنّه متحيّز لإسرائيل دائماً، مثالاً لا حصراً، ولكن عوض التوضيح شاء أن يتساخف وقال متذاكياً: "آي نو ليبانيز ـ لست لبنانيّا، آي هاف شاينيز ـ أنا نصف صيني، هاف "جابّانيز" ـ ونصف ياباني". وقال اليوغسلافي الأصل، وذلك قبل أن تنفجر غرفة الحرارة ضحكاً يتفحّص الأرض: "أند هاف جهْشَشَا" ونصف جحش!.
(شروي غروي)
اعترضه حادث بجرحٍ بليغ في أمّ الرأس ما استدعى بقاءه في مستشفى سانت جورج ـ محلّة كوغرا ـ منطقة سانت جورج – جنوب سيدني، وخرج من المستشفى بناءً على طلبِه هو، كما قال، ولكن طبعاً ليس قبل أن يتأكّد الطبيب المعاين أنّ الجرح "تحت السيطرة".
وعادَه في بيتِه صديق له حميم، هو عين أخي شعلان الذي يلاطفُه بالمزاح الذي لا يرحم غالباً، ومع ذلك، ومهما تطرّف، فهو يظلّ "سمن وعسل"، كما يُقال، للمودّة الراسخة بينهما.
سألَه عن جرحِ رأسه وعنِ الإمتحان العقلي الذي خضع له في المستشفى وتأكّدوا، قبل إطلاق سراحه، أنّ عقله "تمام"، على رغم نيله "2 من عشرة"؟!، طمأنَه، عالماً بخفايا الكلام، أنّ الجرح تحت السيطرة وأن عقله عشرة على عشرة.
وأفسحَ لزوجتِه لتجلس إلى جانبِه بعدما وزّعتْ عليهما القهوة العربيّة المرّة، وأردفَ صاحب البيت أنّه، والحقّ يُقال، قد ارتبك بدءاً عندما سألوه عن تاريخ ميلادِه، وأكّد أنّ هذا حصل، ولكن، وبحمد الله، ما أسرع أن تذكّر تاريخ ميلاده، وأكّدَ أنّ ارتباكَه لم يكن ناجماً عن شيء سوى أنّه لم يكن يهتم لأمر تاريخ ميلاده سابقاً، وكان كلّ مَنْ يسأله عن يوم مولده يسمع منه قوله: "إسألْ زوجتي"!، ومع طول الوقت، وبسبب من ذلك، مرّات، هو لا يتذكّر تاريخ ميلاده بالسرعة المطلوبة. والتفتَ إلى زوجتِه وأشهدها على صحّة كلامه.
لم يقتنع أخي شعلان، وبالعكس اتّخذ كلامه ذاته دليلاً على إصابته بأمّ أمّ عقله، فكلامه "طهوجه"، "شروي غروي" ـ لا يدري ماذا يقول!. وانبرتِ الزوجةُ تدافع عن زوجِها الذي كان يبتسم مدارياً عجزاً دون الردّ، وأطال الله عمرها، "كسرتْها" عوض أن "تجبرها". قالت لشعلان أنّ زوجها من قبل الحادث "يطهوج"!.
وأردفتْ، وهي تنظر بتعاطف إلى زوجها المتفاجئ ممّا يسمع، وقالت لزوجها: "اطمئن، عم قلّه هيك حتى ما يفكّر إنّو الحادث فعلاً أثّر فيك"!.
(الخريطة الجينيّة)
تشجّع واشترى بيتاً في محلّة هيرستفيل ـ سيدني، وبسبب من صعود الفوائد على القروض المنزليّة، وقد تجاوزت مرّة حدود 18 بالمئة، وتسبّبت بانهيارات إقتصاديّة وخسر كثيرون بيوتهم، لا يزال يدفع أقساطه، ويسدّد للبنك منذ سنوات بعيدة، وبعدُ كما لو أنّه لا يزال في مكانه.
وهما يصطادان السمك، أخيراً، سأل صديقَه عن ماهيّة التي يسمّونها "الخريطة الجينيّة"، التي بات الكثيرون يتحدّثون عنها، على رغم أنّهم قلّما يعرفون عنها شيئاً، وهو ذاته منهم، قالَ له، وهو يحرّك خيط القصبة على مهل، في محاولة لتحريك الطعم في الماء، فيلفت نظر سمكة، أنّه سمع عن الخريطة الجينيّة وأنّ كلّ ما يعرفه أنّها خريطة للإنسان بأدق تفاصيله، هي من عدد لا يُحصى من النقاط وكلّ نقطة هي ما قد يطرأ على الجسم من أحوال، وقال إنّ الخريطة الجينيّة حقيقة علميّة وبها يضع الإنسان يده على سرّ أسرار الحياة، فإذا يُصاب الإنسان بالصلع، سيبحثون في الخريطة الجينيّة أين هي نقطة الصلع، وسيقتلعونها، ويصاب بالجرب، وأيضاً أين هي نقطة الجرب في الخريطة الجينيّة؟، وسيقتلعونها. وسينزع العلماء كلّ نقطة مسؤولة عن تدهورِ الإنسان، وأخيراً سيصير الإنسان "سوبّرمان" و"سوبّرويمن"، وسيعيش كلّ فرد لا أقل من عشرة آلاف سنة، وذلك قبل أن يدهمه الموت الذي أيضاً سيقهره الطب، وبثقة، يوماً ما.
وانحنى، مولياً ظهرَه لحركةِ الهواء، بعدما نظرَ إلى رؤوس قصبات الصيد المنصوبة أمامه في الرمل، ورآها على حالها ولا إشارة من صنّارة أنّها في فم أو بطن سمكة، ليُشعِل سيجارة. قال له المغلوب، ولا يعرف سبيلاً للتخلّص من القروض البنكيّة على بيته: "عشر تالاف سنه؟، أنا بتكفيني 500، مش أكتر". ومبتسماً بمرارة، وهو ينهض إلى قنينة ماء غير بعيدة في السلّة المغطّاة وقاية من الشمس الشديدة، قال أيضاً، بصوت وصل إلى أذن صديقه بالتأكيد: "500 سنه بس، بلكي بهل المدّي بيصير بيتي إلي"!.
(الجريمة الكاملة)
زوجتُه وأولادُه في زيارةٍ للوطن الأمّ سوريّة، وهو بمفرده في منزله، يشاهد التلفاز، وأمامه فاكهة، مكسّرات، بيرة، ويدخّن. رنّ الجرس، قام إلى الباب متمهّلاً كأنّما هو يعرف من القادم، وهو يهمّ بفتح الباب خطرت له خاطرة ابتسم. فتح الباب، أبدى قلقاً. سأله صديقه اللبناني الأصل، وهما في غرفة الإستقبال، إذا شيئ ما ليس على ما يرام؟. قال، حريصاً أن يبدو كاذباً: "كلّه تمام"!. واقترب من فوره، بإهتمام، من الهاتف المعلّق على الحائط ورفع السمّاعة، واصطنع أنه يضغط أرقاماً، وأصغى. وأعاد السمّاعة إلى موضعها متأفّفاً وجلس وقال: "الخطوط لا تزال مشغولة". وقدّم الفاكهة صوب صديقه، وقال بصوت من يريد كذباً صريحاً أيضاً وأيضاً: "لا تشغل بالك، سأجلب لك تنكة بيرة"!.
صديقه يعرف ألاعيبه، ولكن ما لعبته هذه المرّة؟. قال له: "خير، تبدو مهموماً جدّاً"؟!. قال، كأنّما لا بدّ أن يعترف: "أحاول منذ ساعتين الإتصال بإسرائيل عبثاً، كلّ الخطوط مشغولة"!. وتأكّد الصديق أنّه أمام لعبة، فماذا أن يتّصل صديقه بالعدوّ؟!. ولكن سيُجاريه، كالعادة، وصولاً للخاتمة. قال: "تخابر إسرائيل"؟!. قال: "زوجتي وأولادي في سوريّة، هاتفتني قبل ساعتين تريد الذهاب مع أمّها إلى محلّ ملابس نسائيّة في حمص، أنا أعرفه حقّ المعرفة، وقالت إنّها ستترك الأولاد برعاية أمّي وأبي، ولن تتأخّر أكثر من ساعتين". قال الصديق، وقد رآه يصمت فجأة ثمّ ينظر بعيداً كأنّه في مشهد مسرحي: "وما علاقة ما تقول بالتلفون لإسرائيل"؟!. قال: "أنت تعرف كيف حزب الله يقصف إسرائيل يوميّاً بمئات الصورايخ ـ حرب تمّوز 2006 ـ وتعرف أنّ إسرائيل تكاد تجنّ، فهي تريد أن تعرف موقع مخزن صواريخ حزب الله بأي ثمن". قال له ليحثّه على الإفصاح بعد أكثر، بعدما صمت فجأة أيضاً: "ثمّ ماذا"!. قال: "ماذا لو إسرائيل علمت بمكان مخزن صواريخ حزب الله"؟. قال: "ستقتلعه بالطائرات والصواريخ من جذوره". قال فرِحاً: "أحلّفك بربّك، أليست هذه جريمه كاملة"؟!.
قال متشكّكاً: "بعدُ لم أفهم"!. قال: "انقضت الساعتان، كنت أتّصل بإسرائيل لكي تعرف موقع مخزن صواريخ حزب الله، إنّه تحت محلّ الألبسة النسائيه إيّاه، في حمص، ولكن للأسف، زوجتي وحماتي حتماً الآن تركتا المحلّ"!. قال الصديق، وقد وضح الأمر: "ويعلم الله كم عدد العربان، من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، الذين يشغّلون الآن كلّ خطوط إسرائيل"؟. وشربا بصخب.
(أسماء الألوان)
قال لإبنة شقيقته أن لا تعاند أمّها، وسيعلّمها أسماءَ الألوان. وسمعت الكلام وهو علّمها أسماء الألوان، ومثالاً اللون الأخضر: هو "برّي" ـ نسبة للأستاذ نبيه برّي رئيس المجلس النيابي اللبناني ورئيس حركة أمل في آن التي رايتها لونها أخضر. اللون البرتقالي: هو "عون" ـ نسبة إلى رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة السابق ومؤسّس التيار الوطني الحرّ الجنرال ميشال عون ورايته لونها برتقالي. اللون الأزرق: هو "حريري" ـ نسبة إلى الشيخ سعد الدين الحريري رئيس الوزراء اللبناني السابق أيضاً وزعيم تيّار المستقبل الذي رايته لونها أزرق. اللون الأصفر: هو "نصرالله" ـ نسبة إلى السيّد حسن نصرالله قائد حزب الله اللبناني الذي رايته لونها أصفر. وفيما كانت مع أمِّها في محلِّ سمانة في محلّة بانكستاون ـ سيدني وهو لسيّدة لبنانيّة الأصل ومعلوم هواها القوّاتي ـ حزب القوّات اللبنانيّة المخاصم للتيّار الوطني الحرّ ـ رأت عصفوراً في القفص لونه برتقالي، قالت لأمِّها بفرح، ومشيرة بإصبعها الصغير إلى العصفور: "عون"!. وانتبهت القوّاتيّة والتفتتْ إلى رفيقتها في الهوى السياسي وقالت، وهي تبتسم مكراً نسائيّاً محبّباً: "شو، مبيّن غيّرتي"؟! ـ أي تركتِ القوّات والتحقتِ بالتيّار؟!. ابتسمَتِ الأمُّ ابتسامتها الذكيّة، وقالت ببديهةٍ هي معروفة بها: "متل ما بتعرفي، كلّ بيت بهل أيّام صار مقسوم على نفسُه، بنتي إلها رأي وأنا إلي رأي، عملنا وثيقة تفاهم ـ إشارة إلى وثيقة التفاهم بين القوّات والتيّار ـ هيّي بتحترم رأيي وأنا بحترم رأيها"!.
(كلينت إستوود)
قالت إنّها باتت أخيراً تكره، وأكثر ما تكره، الحديث بأي شيئ إسمه سياسة، أو له علاقة بالسياسة، إنْ من قريب وإنْ من بعيد، وقالت إنّ الناس صاروا بعصبيّة وجاهليّة. وفي سياق حديث وجد ذاته يتلفّظ بإسم نائب في البرلمان اللبناني، وقال إنّه ربّما يكون أفضل من غيره. وهي سمعت إسم النائب وقولوا: اكفهرّت، تلبّدت، أبرقت، زمجرت و"برمت بوزها" وظهرَها، وهو لا يدري، وكيف له أن يدري ماذا جرى وماذا يجري؟، وهي إذا تكره أيضاً لا تكره مثل الذي هو ألمح أنّ فيه خيراً. قالت بعصبيّة بادية: "ما لقيت غيره يا زلمي"؟!. وفتحت جزدينها بسرعة، ورفعت موبايلها، وضغطت أزراراً: "طقْ طقْ"، وظهرت على الشاشة صورة نائب مناوئ. وقالت، وهي تكاد تلصق موبايلها بوجه محدّثها: "شو رأيك؟، هيدا وبس والباقي خسّ"!. قال لها، وهو يتراجع مذهولاً: "ولو، شو صار، على مهلِك يا كلينت، روقْ يا كلينت، روقْ"!.
(النقابي والشيخ)
قرأتُ دعوة أحدهم مستعيناً بالقرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ". وتذكّرتُ الصديق "أ. هـ" الإسلامي، وكنتُ ذاتي أغيّبه القرآن، مع علمي من يكون وعلمه من أكون. وكنت في أواخر القرن العشرين لا أزال نقابيّاً عن مساعدي محطّة قطارات سيدنهام ـ سيدني. واتّصل بي الصديق وأطلعني أنّ فضيلة الشيخ "ن" سيتّصل، وهو أحد "المحافظين". وفعلاً اتّصل. واستغربَ، بعدما تلا عليّ ما سبق من آي القرآن، كيف لا أسعى نقابيّاً بالسماح للأستراليين المسلمين أن يتركوا عملهم للصلاة، يوم الجمعة، في جامع من جوامع سيدني؟. شرحت لفضيلته طبيعة العمل في سكك حديد ولاية يقطنها 8 مليون نسمة، وحذّرته من خطورة هكذا مسعى على شبيبة الجالية إذا شاؤوا وظيفة في هذا القطاع الحكومي الضخم مستقبلاً، وكلّ كلامي ذهب من دون أدنى فائدة حتى صارحته أخيراً بأنّ الله سبحانه لم يذكر الجامع في الآية التي تلاها، وإنّه ممكن الصلاة في مكان العمل، وهي أصلاً لا تستغرق دقائق، وإذ بي عليّ أن أكون "فقيهاً"، وهذا اختصاصه، وخلف ظهره علم كلام. ولا أتذكّر بالضبط لماذا انتهت المكالمة بيننا على ذاكرة قلقة؟. هل سألني إذا كنت مسلماً حين لم يقنعني؟. هل قلت له أنّ أمثاله هم في السماء أكثر ممّا هم على الأرض؟.
(ملكة ومحمّد)
الصديقة ملكة حسّان خالد كلّما تبدي همومها أمام زوجها الفنّان التشكيلي الصديق أيضاً محمّد خالد، خصوصاً إذا سمعتْ أخباراً غير سارّة بشأن صحّة هذا من أهلها في لبنان، أو بالوضع المادّي البائس لذاك أو ذيّاك من الذين تعرفهم، وهنا في سيدني. وعندما أبدت آلاماً في الرأس أخيراً ردّ زوجها ذلك إلى كثرة انشغالها بما تبالغ فيه، وقال لها، وهو يقدّم لها حبّة دواء وكأس ماء: "كم مرّه بدّي قلّك يا زوجتي المصون: الهموم مش رح تجبلك غير سلّة الأدويه"؟!.
(يا مار شربل)
ونحن في السيّارة إلى ذكرى "أربعين" في كنيسة مار شربل ـ بانشبول ـ سيدني استشعرتْ زوجتي حنان الفنج مسلماني ألماً يلّم بي أكتمُه من دون جدوى.
ونحن في باحة الكنيسة لاحظتْ، وهي المرّة الثانية بحياتها تدخل كنيسة، وتجد فخراً أنّها تفعل، كيف مسيحيّات من أعمار مختلفة كلّما يقفن قبالة تمثال القدّيس مار شربل في باحة الكنيسة ويردّدن أمامه ما لم تتبيّنه.
وواحدة وقفت حتى أخيراً مسحت دموعاً عن خدّيها فيما تتوجّه إلى مدخل الكنيسة. ووجدتْ زوجتي ذاتها تتوجّه صوب القدّيس وتواجهه، ثمّ ترجع إليّ حيث أقتعد كرسيّاً بجوار مدخل الكنيسة.
سألتُها عن أمرها وقد قرأت في وجهها كلاماً؟، قالت إنّها توجّهت إلى مار شربل بالدعاء كي أبرأ ممّا بي، ومبتسماً، للمفارقة، فماذا تطلب مسلمة سنيّة، زوجها مسلم شيعي، من مسيحي ماروني؟، سألتُها عن ماذا قالت؟، قالت: "قِلتْ يا مارْ شربلْ، بِجاه النبي محمّد إشفيلي جوزي" ـ زوجي!. فرِحتُ بما سمعت وقلتُ لها: "وبالكنيسهْ تمثالْ لستْنا مريم العذرا، دخيلك، ادْعيلي عندها بِجاهْ ستْنا فاطمةْ"!.
(برهان لميس)
أحتفظُ لنفسي في مكتبي ببيتي بكيس فيه حلويات أصغر حجماً من حبّ الترمس أو الحمّص وهي مضغوطة وملّونة وطريّة مثل "أم أند أم". وأخيراً طلبتْ منّي طفلتي لميس، وعمرها سنتان، وحين تطلّ لا بدّ أن أغمرها وأقبّلها، أن أعطيها "علكة"، فهي تعلم أنّي أحتفظ بالعلك في جيب سترتي دائماً. وشعرتُ بالهزيمة، لا علكة في جيوب السترة والقميص والبنطال ولكن بسرعة هداني عقلي، لكي لا ترجع لميس خالية الوفاض، وذكّرني بكيس الحلوى الذي أخبّئه تحت سترة معلّقة على المشجب في المكتب.
والكيس في مكانه سعيت ألاّ تراني لميس ماذا أفعل فلا تعلم بأمر ما لذّ وطاب وإلاّ فقولوا ما أن أخرج من البيت حتى هي ستدخل إلى المكتب. وعكشتُ لها عكشة. ملأتُ كفّيها الصغيرتين بحبوب مضيئة ومن ألوان شتّى. وغمرها الفرح الذي شعّ بعينيها، والأكيد أنّها حظيت بما رضيت.
كان الأمر بعد الظهر، ورجعتُ مع الغروب واستلقيت فوق الأريكة، في محاولة للتخفيف من ألم الظهر اللعين ولا يدريه مثل من يعانيه، وهي اقتربتْ متمهّلة بوجه يُظهر الإرتباك أو الإنكسار، وبيدها كيس بلاستيك فارغ، ولكن ماذا يعني كلّ ذلك؟، إنّه كيس فارغ وتحمله طفلة، وأي جديد أو مختلف في الأمر؟. وأنا أبتسم لها قالت بإنكليزيّتها أنّ "شارلي"، و"شارلي" هو عين شقيقها "شاهر" الذي يكبرها بثلاث سنوات، قد أخذ الكيس وأكل وحده كلّ ما فيه!.
ونظرتُ في الكيس، إنّه فارغ، ماذا كان في الكيس والتهَمَهُ شاهر وحده؟، لم أفهم، لم تسقط بحصة في بركة رأسي. وفجأة فطنتُ أنّه الكيس إيّاه الذي ملأتُ منه كفّيها. هي كانت قد فسّرت تشتّتي أنّي ما دمتُ لا أرى في الكيس شيئاً فلن أفهم، وأرادت أن تحسم الأمر. قرّبتِ الكيسَ من أنفي وقالت لي "Smell" ـ شمّ. وشممتُ رائحةً كريمة، واصطنعتُ العبوس كأنّي الآن، وبمساعدتها فقط، فهمت.
ووعدتها أنّي سألوم شارلي على فعلته الشنيعة، وخصوصاً أنّه احتكر كلّ شيئ لنفسه الطمّاعة. وابتسمتْ كأنّما أفرخ روعُها، فهي غير ملامة، لم تمس كيس الحلوى الذي كان معلّقاً على المشجب في المكتب، وطبعاً أيضاً لم ترشد شارلي إليه ليطاله لهما، وإن نشب خلاف بينهما أنّه "لهفَ" لنفسه أكثر من الثلثين.
(سوء العاقبة)
أعرفُ أسرة تملك محلّ سمانة في محلّة تامبي ـ سيدني، يعمل فيه الزوج والزوجة، وإن كانت الزوجة مسؤولة أيضاً عن تدبير أمور بيت فيه صغيرين، وهي لذلك تعمل بدوام جزئي، والحقّ لا أكثر من ساعتين يحتاجهما الزوج كلّ يوم ظهراً، للغداء والقيلولة، ليرجع ويستلم منها وهي تغادر إلى عملها. وقالت لي زوجتي في مرة أنّ الزوجة مبذّرة، ولإشباع رغبتها بالتبذير تسرق من "غلّة" المحلّ فيما زوجها غافل. والحقّ أنّي صدّقتُ زوجتي في حينه ظاهريّاً، أمّا باطنيّاً فقد برّأتُ ساحةَ الزوجة، محتجّاً أنّها ربّما تتعرّض لإفتراءات وأقاويل من نسوة "أشرار" أخبرن زوجتي أنباءهنّ. ومرّة أيضاً قالت لي زوجتي إنّ الزوجة المبذّرة ذاتها تسرق من "الغلّة"، وعلى مرأى من ولديها الصغيرين، بإستهتار. واليوم شبّا، واليوم بلغني أنّ الشرطة ألقت القبض عليهما، مع فتى ثالث هو قريب لهما، بتهمة السطو المسلّح.
(رحلة سافاري)
صديق عراقي إسمه "ليث"، وأعتقدُ أنّه من أسرة "لبيب"، وكان البغدادي الوحيد تقريباً في سيدني، اختفى، لم أره، ولم أسمع منه أو عنه، بعد، لأكثر من 30 سنة، وقد حدّثني مرّة، وقال: "كان العنصريّون البيض يقومون بتجارب على الأفارقة السود، وهي تجارب من نوع قدرة الإنسان على إحتمال ألم ما خلال عمليّة طبيّة بلا "بنج" ـ مخدِّر، وكانوا ينظّمون رحلات صيد "سفاري" ـ صيد الوحوش ـ ولكنّهم عوضاً كانوا يطلقون حريّة مجموعة من العبيد، في غابة، بعد عرضهم على الكلاب المدرّبة، وتبدأ المطاردة بالخيول والرصاص".
(31 سنة)
سنة 1990 سألتني زوجتي حنان الفنج الأستراليّة النشأة، اللبنانيّة الأصل والطرابلسيّة القلب وتكره إسرائيل أنّها لا تفهم العربيّة الفصحى، ولماذا لا أكتب لها "غزل بالمحكيّة"؟!. وأنا من زمان هجرت المحكيّة، وليس لي في الغزل أصلاً. شئت ألاّ أكسر الخاطر وقلت: "اعطيني نصّ ساعه"، وخرجتُ من مكتبي ، وقرأت لها، "ولا حلفان"، حفِظتْ غيباً ما قرأته لها من المرّة الأولى أو الثانية، لم أعد أتذكّر، ولا تزال هي تحفظها وتتباهى بها أمام صديقاتها حين يسألنها إذا أقول فيها "شعراً"؟:
"نجمه نسيها الليل \ غطّتْ عَ شبّاكي \ قالت: صباح الخير \ يا عاشق وباكي \\ وترغل العصفور بالقفص عالحيط \ شِهْقِ الحبق ـ طار العطر بالبيت \\ حِلمْ يمّا عِلمْ ـ حقّ يمّا ليتْ \ معقولْ نجمه نسيها الليل غطّت ع شبّاكي؟ \\ كان العمر عتمه \ وشنتة سفر بالإيد \ وصوره معلّقه وغيّاب راحوا بعيد \ عجقة حدا وما في حدا \ وتهتزّ شجرة الملّول \ معقول نجمه نسيها الليل غطّت ع شبّاكي؟ \\ يا صباح الخير بالنجمه التايهه \ متل وشوشه بدينة الحبيب \ متل نسمه من كلّ شجره طيب \ معقول نجمه نسيها الليل غطّت ع شبّاكي"؟.
وذكّرتني بها زوجتي حنان، بإعتبار أن يوم الأحد المقبل ذكرى 31 سنة على زواجنا وطلبتُ منها أن تعيدها عليّ، وأنا "أطبع أو أصفّ أو أنضّد".
(أستراليا أَمْ فلسطين؟)
"أم علي"، شقيقتي "أشواق مسلماني حمّود" لا تحتمل أن يطول شعر رأسي، وإذا أنا في زيارة لها، ورأت بي ما لا يجدر، قولوا أوامرها ملكيّة. تحضر الكرسي، و"يتكتك" المقصّ أو "تجلخه" بالمشط الأسود الصغير. وأنا أطيع. ولدى "أم علي" أخبار، وستقصّها عليّ، وأنا تحت رحمتها. كلّ كم "قَصّة" قِصّة، وكلّ "خبرياتها" صادقة وحرفيّة، فما على لسانها هو عين ما في قلبها الطاهر وعقلها النزيه وتجرّدها التامّ، حتى تحيّرني أهي طيّبة أم حكيمة؟. وإذا كفلتْ روحاً قدّمتْها على روحها، مثلما تفعل، مثالاً لا حصراً، مع هرّة "بارجيان كات"، جلبتها قبل سنتين بعد حادث مؤسف أودى بحياة "عينطورا" القطّ ـ الجمل: لضخامته، وكان كلّ أهل البيت في خدمته. و"خلّفت" الهرّة، وأفردت لها "أم علي" غرفة، وزوّدتها بكلّ ما يُسرّ حتى تمنّيت لو ذاتي إبن شقيقتي، عساني أحظى بمثل هذا الحبّ. ولكن أحياناً، ولشأن خاصّ جدّاً، لا بدّ للهرّة أن تقف قرب الباب لتخرج ثمّ تعود، ولا أحد يعرف كيف تجد طريقاً إلى الحديقة الخلفيّة لبيت الجيران، الذي يفصله عن بيت "أم علي" حاجز معدني "كولاربوند" جميل، وقد شيّدته أم علي بمال بيتها الخاصّ، علماً أن القانون الأسترالي يقضي أن تكون كلفته مناصفة مع الجار، والجار ذاته رجل يهودي محترم، تقول "أم علي" إنّه أستاذ علم نفس، ولكنّ زوجته، قولوا، مَن في الأرض يمكن أن يحتملها غيره؟. تجنّ إذا رأت الهرّة في حديقة منزلها، وهي التي أصلاً نظّفتها لها من الفئران. حتى رجعت "أم علي" إلى البيت بعد الظهر لتجد عمّالاً يشيدون جداراً حجريّاً بين البيتين "يغمّ على القلب"، كما قالت، وأعلى من حاجز "الكولاربوند"، وطبعاً من دون فائدة قالت لها أم علي بالإنكليزيّة: "أيّتها السيّدة، نحن هنا في أستراليا ولسنا في فلسطين" ـ إشارة إلى الجدار العازل الذي شيّده الصهاينة في فلسطين المحتلّة ـ وقال زوج الجارة، ومن دون أي قدرة على تغيير واقع الحال ورغبة زوجته أيضاً: "أينما أذهب، يا إلهي، لا بدّ أن تحرجني وتختلق لي كلّ مشاكل الأرض"!.
(شكراً يا ربّي)
"لماذا نظنّ أنّنا أذكياء فيما واقعاً نحن "حمقاء"؟، سألني صديقي الفنّان المسرحي، الراحل، فضل عبد الحي، عالِماً في آن أنّي سأسأله أن يقدّم هو الجواب، وضحك بعدما صدقَ حدسه، وضحك أكثر لِما أنا توقّعته، وانخرطتُ معه بالضحك، ونحن نقول معاً، وبصوت واحد: "لأننا حمقاء نظنّ أنّنا أذكياء".
ومرّة سألني: "نعامل بعضنا البعض معاملةً حسنة: لماذا؟"، عالِماً في آن أنّي سأسأله أن يقدّم هو الجواب، وضحك بعدما صدقَ حدسه، وضحك أكثر لِما أنا توقّعته، وانخرطتُ معه بالضحك، فيما نقول معاً بصوت واحد أيضاً: "لكي نتّقي شرّ بعضنا البعض"!.
وسألني: "ألم تسجد الملائكة لأبينا آدم"؟، قلت: "مئة بالمئة"، قال: "هل هذا يعني أننا أفضل من الملائكة"؟، أجبته. وكنّا جالسين إلى طاولة، سرعان ما وقف ورفع يديه الطويلتين حتى بان شعر إبطيه، كما يُقال، صوب السماء، قائلاً بتأثّر شديد ما عليه مزيد: "لكَ الشكرُ يا ربّ: "طلعنا أخيراً أحلا من حدا".
(تيتي تيتي)
ونحن في حديث عن لبنان قصّ ما هو معروف، وقد في الإعادة إفادة، قال: "أسرة عميان دعوا أن يرزقهم الله "مفتّحاً" فرزقهم، وهنّأهم الناس. فرحُ الأسرة بالمولود المفتّح لم يعدله فرح، حتى كلّ منهم يجب أن يحتضنه، ويوميّاً، وكانوا "يبقبشوا عليه" و"بالبقبشه فقروا عينيه"!.
(أدولف هتلر)
سمعته يشتم "أدولف هتلر"، وسألته فقال: "أينما ذهب هتلر كان "يطهِّر"، فلماذا لم يشرّفنا في بلادنا العربيّة؟!.
(بشرفك؟)
والحياة ذكريات، كما يُقال، أو الحياة حكايات. ويومها، وكان ذلك سنة 2015، أي قبل وفاته بثلاث سنوات، وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريباً. قال الراحل فضل عبد الحي، رحمه الله، وهو يمدّ يديه الطويلتين صوب الموقد، تدفئة أكثر لهما، وهو ينظر في الجمر، وبهدوء، أو كأنّه يتحدّث إلى روحه: "سأعرض عليكَ ما آمل أن ننفّذه معاً"، قلت له: "هات". قال: "بشرفك"؟. قلت: "هات"!، مرّة ثانية، وقلت: "بحسب"!. وقلت: "إذا ممكن، وإذا قادر"!. قال: "نعم، نحن معاً قادران". قلت له: "تفضّل"!. قال: "بشرفك"؟، أيضاً. قلت له: "ما دمت أنا قادر عليه وأنت قادر عليه.. تفضّل، اعتبر انّ الأمر قد صار"!. قال: "أينما تكون، وأينما أنا أكون، و24 ساعة على 24 ساعة، في البيت والشارع، مع العيال ومع الأصدقاء، وكلِّ من يتكلّم بالعربيّة في أستراليا، وطبعاً دائماً عندما نكون معاً، ولا كلمة ينطقها اللّسان إلاّ باللّغة العربيّة الفصحى"!. ضحكت لهذا الذي يجري في رأسه وهو ابتسم. واستهولتُ الأمر لإستحالته. ويومها، رحمة الله عليه، قلت له: "إذا ذهبتُ غداً إلى بيت أهلي، وكان الصباح، أقول لأمّي وأبي "عمتما صباحاً"؟. أمّي ستعتقد أنّي أتعلّم لغة جديدة، وأنّي أجرّبها بهما. وإذا أنا في منزل أخي شعلان وواعدته في أي ساعة نلتقي للذهاب إلى صيد السمك أقول له "ننطلقُ تمامَ الثانيةَ عشرةَ ظهراً"؟ بالفتحة والضمّة.. إلى آخره؟. أعتقدُ جازماً أنّه سيرمقني خفية. أمّي تقول "صباح الخير"، و"عمتما"، بالنسبة لها، "كلام مسرحي"، وصباحاً "فزلكة"، و"ننطلق، و"تمام الثانية".. إلخ، فتكلّف". قال: "ولكنّك حلفت بشرفك"!. وعرفت أنّي وقعت في فخّ "الله ما بيشيلني منّه". وثاني يوم بلغني أنّه كان يتحدّث بالعاميّة، وبالصدفة، التقيت بالصديق المشترك، وذلك في "بيميش ستريت ـ كامبسي ـ ضاحية من ضواحي سيدني، وقال لي فرِحاً أنّه يومه جميل. سألته فقال إنّه قبل ساعتين التقى الصديق فضل عبد الحي، وأنّهما تحادثا عن متى سيقدّم عرضاً جديداً على مسرح "كوميدي ستاند أب ـ في "نيو تاون" ـ المحلّة الملاصقة لقلب سيدني. سألته بأي لغة كان يحادثه؟. قال متفاجئاً: "بالعربي! شو القصّة"؟. قلت أنّ قصدي هو تحادثتما بالعاميّة أم بالفصحى؟. قال مستغرباً سؤالي: "بالعاميّة. شو عامل بهالأيام؟، وأيمتن بدّك؟.. وهيك"!. وأنا نجوت بشرفي ما دام هو نقض العهد، أي لا نتكلّم إلاّ بالفصحى ـ 24 ساعة على 24 ساعة، ولكنّه لم يحلف بشرفه. ومات صديقي فضل وأنا أتذكّره وأهجس أن أنفّذ رغبته، وقد أعملها وفاءً وأن أعرف ما لم أسأله في حينه، أو سألته وهو أجاب وأنا لم أكن أسمع: ماذا أيقظه إلى هذه الرغبة؟.
(Stop)
ومن أخباره ادّعاؤه أنّ حرف "الحاء" في اللّغة العربيّة دليل همّة أهلها العالية، وأمّا اللّغات التي ليس فيها حرف "حاء" فهي لأمم فيها رخاوة. وقال: قلْ "مستحيل"، قلت: "مستحيل"، قال: قلْ "مستهيل"، قلت: "مستهيل"، قال: ألم تشعر بنفخة الصدر وصلابة الرقبة عندما قلت "مستحيل"؟، قلت: "حصل"، قال، وعندما قلت "مستهيل" ألم تشعر كأنّك عجلة، دولاب، إطار، أو أي شيئ يحتاج إلى الهواء لينتفخ ويفقد الهواء من ثقب أحدثه مسمار؟، قلت: "حصل"، وسألته عن حرف "الضاد"، قال: الشيئ ذاته، قلْ: "الأرض"، قلت: "الأرض"، قال: قلْ "الأَرد"، قلت: "الأَرد"، قال: ألم تشعر، وأنت تقول "الأرض"، بالعزّة والكرامة؟، قلت: "حصل"، قال: وعندما قلت "الأَرد" ماذا كانت النتيجة؟، كأنّك بالون هواء تتقاذفك نفخة هواء من هنا ونفخة هواء من هناك، قلت: قلْ: STOP، قال: "ستوب"، قلت له: ألم تلاحظ العزم في STOP، قال: "حصل"، قلت له: وأنت تقول "ستوب" ألم تشعر برخاوة بشفتيك؟، قال: "حصل"، قلت له: قلْ VIVIAN، قال: "فيفيان"، قلت: ألم تشعر، وأنت تقول VIVIAN، بالرومانسيّة والغرام؟، قال: "حصل"، قلت: وعندما قلت "فيفيان" ألم تشعر أنّك حائر لا تدري ماذا تقول؟، قال: "حصل". وأخيراً التقيته وقال لي: واللهِ إنّك، يا شوقي، عبقري، ولا بيفهمني بالكون أحد غيرك!.
(دخان)
حدّثني أنّه في سوق بانكستاون ـ سيدني، يقف مع زميل، وغير بعيد منهما تقف فتاتان، قالت إحداهما لزميلتها بصوت مسموع وهي تنظر صوبه: "أنظري كيف ينظر إليّ مثل حمار وحشي جائع"!، فيما هو في آن كان يهمس لصديقه: "أنظر إليها كم هي رقيقة مثل أختي"!.
(أندونيسيا في تايلاند)
"قلتلاّ بدّي روح على تايلاند، زِعلتْ وقالتلي: "بدّكْ تروح تتزعرن"!، وأنا ما بحبّ زعِّل إمّي، وبعد جمعه أنا مسافر، رايح على تايلاند ـ مشهورة عالميّاً بلياليها "الحمراء" ـ بدّي قلّها رايح على أندونيسيا، وأندونيسيا أكبر دولة مسلمه وفيها جوامع ويمكن أتعرّف على مسلمه بتصوم وبتصلّي، وبس إرجع أكيد إمّي رح تسألني، ولازم بيّن قِدّامها إنّي كنت فعلاً بأندونيسيا. بدّي شي كتاب أقرأ فيه وأنا راجع بالطيّاره يكون عن أندونيسيا، ويكون فيه صور وأسماء جوامع، بلاقي عندك كتاب تعيرني ياه"؟.
(مفارقة)
صديقتي الأستراليّة ـ الإنكليزيّة الأصل، وإسمها كايلي، سحاقيّة، حضرتُ حفل زفافها على "عروستها" سمانتا، في محلّة إنفيلد ـ سيدني، وكان الحضور ـ المدعوون ـ زميلات، فاق عددهن ثلاثين، وأقلّ من عدد أصابع اليدين كان مجموع الزملاء، والجميع كان من بلدان أوروبيّة مختلفة، وحضرة جنابي العربي ـ الشرق أوسطي ـ اللبناني الأصل الوحيد، وكان الزفاف في حديقة البيت الخلفيّة، المزدانة بأشجار وارفة وأضواء رومانسيّة وبركة ماء فيها نافورة، وتتوزّع طاولات بمأكولات ومشروبات ومكسّرات، وموقد حطب يشتعل، وكان حديث جانبي مع بعضهن تطرّق إلى "حجاب" المسلمة، وأشهد أنّ مجموع الجميلات حولي، وكايلي في الطليعة، انخرطن في دفاع شرس عن حقّ المرأة المسلمة بما ترتضيه لنفسها، وبقلوب مفعمة ولواحظ ذبّاحة يميناً وشمالاً.
(صاحبة الصون والعفاف)
إسمح أن أقصَّها. كنّا أنا وأنت في حفل زفاف صديقة أستراليّة مشتركة على صديق أسترالي، إنكليزي الأصل مثلها، أحبّها سنوات المدرسة الثانويّة من طرف واحد، وهي خلال هذه السنوات، وبعدها، عقدت صداقات أيّ منها لم يُكتب لها أن تفضي إلى زواج، لكنّ الأيّام لها أفاعيل، وكثيراً هي أغرب من الخيال. التقى بها بعد 15 سنة في أحد بارات سيدني. وتجدّد الماضي. أفلح هذه المرّة. أصرّيتَ يا صديقي أن ترتجل كلمة تهنئة، مأخوذاً ببساطة الحفل، وبروعة الحضور والشواء والنبيذ وعزف الغيتار. وأصغى العروسان. الحضور لم يتجاوز 20 شخصاً. أردتَ أن تمتدح العروس أنّها صاحبة "صون وعفاف"!. وعجزتَ عن ترجمة ذلك في ذهنك، فقلتها بالعربيّة، والتفتَّ إليّ وأنا إلى جوارك وسألتني كيف تقول "صاحبة الصون والعفاف" بالإنكليزيّة؟. لم أملك غير أن أبتسم وأن أقول لك "شو صَون وشو عفاف يا زلمي"؟، وأمام الحضور الإنكلوسكسوني كلّه وأنت وأنا العدنانيّان فقط. أصرّت العروس، فرِحة، أن تعرف ما هذه الكلمات التي تلفّظنا بها؟، ورجتنا، ويا للغرابة، ومع الحضور، وبإجماع، أن نفعل. وأعانني الله، وقلتُ أنّكَ أردت مدح العروس، ووصفتها أنّها محافظة على "عذريّتها". ويومها كم ضحكوا وهم يسألوني أن أعيد وأن أشرح، بمن فيهم العروس التي من شدّة الضحك كانت تتفحّص الأرض بقدميها.
(إشارة)
أُخذوا أنّي، وفي يوم ماطر، وكنت خارجاً من البيت، رافعاً شمسيّة، وبعد مسافة لا بأس بها، عثرتُ على هرّة صغيرة عند جذع شجرة ترتعش وطافحة بالماء، حملتُها ورجعتُ إلى البيت، وعرضتُ عليهم القصّة من جديد، موضحاً، وقلت، وهنا تبدأ المسألة، إنّ أحداً من الحضور لن يتردّد أن يفعل مثلي، وكان بين الحضور متألّق، متأنّق، قال، واكتفيتُ ردّاً بالإبتسام وقولي كأنّي موافق: "يجوز"، وواثقاً، وبعد ضحكة صغيرة، كأن فيها إصرار، قال: "لا أفعل، أنا لا أفعل". ولا تجوز المقارنة، بمقدار ما هو حظّ الهرّة الصغيرة، الضعيفة، أو أنّها الحقيقة، كما دائماً، نسبيّة، فليس بجزئيّة هو الإنسان بل بالكليّة.
(ياي!)
انحنى فاتحاً ذراعيه وقال: "ساعهْ، الله وكيلكْ ساعهْ، واقفهْ على الطاولهْ، الصبايا والشبابْ من حولها، إيديهن لفوق عميزقفوا كإنّهن عميزقّفوا للسما، وهيّ بصوتْ واحد: "ياي"، "ياااااي ياي"، "ياي". ساعهْ، الله وكيلكْ، "ياي". "يااااي"، ياي شو؟، ياي يا قلبي؟!، ياااي يا حبيبي؟!، ياااااي شوووو؟!.
(عمودان)
الوقت منتصف الليل والسيّارة عند مفترق طرق في محلّة ماركفيل ـ سيدني، ويظهر على ساحة الأحداث من يهمّ أن يعبر الشارع، فات أوانُ الفرملة، ضغط على "السرعة"، وبإعجوبة تجاوزه، نظرَ في المرآةِ أمامه ليرى "المجنون" خلفه، كان لا يزال عند "الكوع" واقفاً مثل عمود، ولم يكن غير عمود، وتأكّد أنّ عقله قد غشّه، بسبب من إنارة الطريق الضعيفة، على زعمه، وعلى الرغم أضاف: "مجنونْ، شَعرَهْ، واللهِ شَعرَه، وكنت ابتليتْ فيه"!.
(الإحتياط واجب)
نظر منْ طرفِ ستارة نافذةِ بيته صوب سيّارة مركونة عند الرصيف المقابل وقال: "كلّ سيّارة هي لكي تسير فما بال هذه السيّارة لا تسير"؟!. وابتعدَ على نحو مفاجئ من الستارة وألصقَ ظهرَه بالحائط وقال جاحظاً: "ولو فرّموني رأس عصفور لن أغادر البيت حتى هذه السيّارة تغادر". وكأنّما اطمأنّ إلى فكرته، قال أيضاً، وهو لا يزال في مكانه، وبصوت كلّه من صدى: "حقّاً الإحتياط واجب"!.
(أكاد أجنّ!)
قال إنّه وصديقه كانا يرحلان وأيّهما يعود أوّلاً ينادي الآخر ليرجع، وبعد رحلة عاد صديقه أوّلاً، قال إنّه كان يتحدّث إليها في "ديسكو" وإنّ شابّاً كان يقف خلفه، ظهره لظهره، ويتكلّم بصوت مرتفع مع صديق مواجه، وقالت إذا هذا يزعجه فبإمكانها أن تَرفسه في أمّ بطنه. ورحلَ أوّلاً وتبعه، وفيما كان يتبعه التفت إلى الوراء وعلم أنّ الراحلين كُثُر ولبعضٍ، في سيدني أيضاً، مَنْ يؤنسه ولبعضٍ ليس غير وحدته. وعاد صديقه أوّلاً أيضاً وقال إنّها لا يحقّ لها أن ترفس في بطون الناس، فماذا لو له صديق ورفسَتْه بأمّ بطنه؟ أين سيدفن ساعتئذ روحه؟!. بلغ السيل الزبى. وفيما يرحل، وهو خلفه أيضاً، كأنّه متفهِّم، قال له صديقه في الغربة الطويلة: "جننتُ"، واستدرك لئلاّ يُظنّ فعلاً أنّه جنّ: "أكاد، أكاد أجنّ"!.
(أخيراً)
"إنفَخَتَ" رأسي، قال، وهو يحتضن رأسه بكفّيه. ونظر صديقُه إلى موضع الثقب، لم ير ما لم يتوقّع أصلاً أن يراه، وابتسم أن يكون ذاته رأسه أيضاً قد "إنفخت"!.
SHWKIMOSELMANI1957@GMAIL.COM
ـ 2022 ـ