(خليل وفاطمة)
هو مهاجِر إلى أستراليا منذ عام 1968 وصاحب أوّل محلّ سمانة، خضراوات وفواكه افتتحه "إبنُ عرب" في سوق شارع ولونغونغ ـ محلّة أرنكلف ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني ـ له طفلان مِنْ زوجة فاضلة ارتضتْه وتحتمل تبعات ارتضائها بصبرٍ جميل فتجمع ما هو يفرِّق وتضيف ما هو يُنقِص على قدرِ عِلمِها وحلمِها، إسمُه خليل، إسمُها فاطمة، أمّا "أماندا"، الأستراليّة ـ البريطانيّة الأصل ـ البيضاء ـ الشقراء ـ الزرقاء العينين ـ والبدينة فقد علِقتْ خليلاً السخي حدّ الإفراط إذا علِق، و"ما ألذّ هذا العنب" و"ما ألذّ هذا التفّاح" وقبل أن تصل إلى شقّتِها في محلّة بانكسيا المجاورة يكون ما تشتهيه قد سبقها إلى شقّتها.
وهكذا بدأت أرباح المحلّ تتناقص وتعمل فاطمة أنّها تصدِّق وخصوصاً حين يقول أنّ السوق ليس له أمان: "يطلع وينزل"، فيما نظراته وحركاته تكذّبه كذباً، وما أوهاه على الكذب. أخيراً وقعتْ فاطمة وبالصدفةِ المحض، بتأكيدها، على بطاقة في جيب سترته الداخليّة وأثر الشفتين المكتنزتين الحمراوين عليها وإسم "أموندا" مكتوب بالعربية والخطّ "مفشلك" وهو خطّ خليل ورقم هاتف مكتوب على نحو جميل وليس هو خط خليل بالتأكيد.
وأكّدتْ "أموندا" التي هي "أماندا"، بعد مهاتفتها من فاطمة، وبعد إعلامها أنّها تخرّب لها بيتها وأن زوجها خليل وبسببها، صار يضربها ولم يعد يحتضن الأطفال أو يراهم ـ وكلّ هذا غير صحيح قطعاً ـ أنّها لم تعرف أنّ "كارل" أي "خليل" هو زوج وأب ووحش!. وعلى رغم صدق اللهجة ظلّ القلق متشبّثاً بفاطمة. وبعد يومين هاتفتْه أماندا: "هل ستأتي الليلة يا كارل"؟، وجوارح خليل كلّها متعطّشةـ وأضافت: "هل لديك صديق من أصل لبناني"؟، وما أكثر أصدقاء خليل، وتابعت: "أرجو أن تختار واحداً لصديقة لي تحبّ ذوي الأصول اللبنانيّة"!. واتّصلَ خليل بصديقه "جيفري" ـ جعفر ـ "أبو محسن" ـ فأجاب أنّه لها ولو هي على حافّةِ قبرها!.
وقرعا بابَ الشقّة، أحدهما كبير الجسم، مليء الخدّين، لطيف، أشعث، جاحظ، هو عين صديقنا خليل، والآخر، قولوا طوله "شِبِرْ" أو "فِتِرْ" وأرفع من خيط. وفتحتْ أماندا البابَ واحتضنتْ "كارل" واحتبستْ مشاعرَها وهي ترحِّب بصاحب صديقتِها الفرِح والمرتبِك في آن، وسكبتْ لهما كأسي نبيذ، وعلى رغم أنّهما لا "يشربان" استقبلاهما بغبطة، ولحظات حتى سأل "كارل" بلغة إنكليزيّة "على قدّه" وهو يتلفّت يميناً ويساراً: "شي هِيَرْ؟! شِيْ كَمْ"؟! ـ "هل هي هنا؟! هل جاءت"؟!، قالت إنّها كانت تستحمّ وهي ترتدي ملابسها. وهما يعتدلان في مقعدَيهما نادت باتّجاه الغرفة القريبة: "فاتيما"!، ونادتْ أيضاً: "فاتيما"!، سألَها خليل بحذر: أرابيك؟! ـ عربيّة؟!، قالت بتأكيد: أند ليبانيز ـ ولبنانيّة، وأضافت: أند يو نو هير ـ وأنت تعرفها!.
وبعدَ شهر من هذا اليوم الذي يشيب له رأس الوليد وتجهض الحامل البكر، كما يُقال للتهويل، وفيما الحربُ في لبنان لا تزال "مشمّرة" أو "على قدم وساق" أقلعتْ طائرةٌ مِنْ مطار سيدني باتّجاه الشرق الأوسط ومِنْ ضمن ركّابِها خليل مع كامل طاقم أسرته. وعلى رغمِ إستواء الطائرة في الجوّ وافتكاك الأحزمة كان خليل لا يزال مُحزَّماً وبأدبٍ جمّ يرشف مِنْ كوبِ عصير برتقال في يدِه.
(أبو شاكر وأبو هاني)
اللّحم "الحلال" كان نادراً في سيدني، وكان البعض من الأستراليين العرب المسلمين، عام 1978، يقصد الملاحم "الأستراليّة" لتأمين اللحم، على رغم العِلم أنّه غير "مذبوح" على الطريقة "الإسلاميّة"، وبعضهم كان يضع اللّحم فوق "مصطبة"، مثالاً لا حصراً، يهرق ماء طاهراً فوقه، أو يضعه على منشر الغسيل، في حديقة البيت الخلفيّة، ويرشّه بالماء، ويقول، وهو يمارس هذا الطقس: "بإسم الله، والحمد لله"، مثالاً، فيصير اللحم حلالاً.
ودخل أبو شاكر معه تابعه، صديقه الطيّب القلب، أبو هاني، ملحمةً "أستراليّة" في محلّة روكدايل ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني، وأبو شاكر يُجيد بضع مفردات إنكليزيّة، ويتباهى أمام أبي هاني بما يعرف، حتى يظنّ الأخير، الذي لا يجيد غير "يس" ـ نعم، و"نو" ـ لا، أنّه قولوا: "شكسبير"، وقال للّحّام: "تو كيلو" ـ 2 كيلو، رافعاً السبّابة والوسطى، ومشيراً إلى ذاته. ثمّ أشار إلى صديقه أبي هاني وقال: "تو كيلو". وفهم اللحّام الأسترالي اللطيف ماذا يريدان. وأشار أبو شاكر، أيضاً، إلى فخذ غنم معلّق أمامه. واستلما، ودفعا الثمن، ولكنّ الواقعة وقعت حين وقع نظر أبو هاني على قطع خشبيّة عند زاوية من الملحمة، قال لأبي شاكر واثقاً بأنّه سينقل إلى اللحّام ما يطلبه": "اسأله إذا ما بدّو هل خشباتْ أنا باخدهن للموقده"!. ووقع أبو شاكر في "حاص باص"، أو "حيص بيص"، هو بالكاد نجا بجلده أنّه استطاع إفهام الّلحام ماذا يريدان من اللّحم!.
رآهما اللحّام الأسترالي وكأنّهما في أمر، وهو، وبكلّ طيب خاطر، مستعدّ لأي مساعدة. سألهما إذا يستطيع أن يقدّم لهما خدمة، وعمّا يشغل بالهما؟. لم يفهم أبو شاكر كلمة. تطلّع أبو هاني إلى أبي شاكر واستفسره ماذا قال اللحّام؟. واحتار أبو شاكر، لكن سرعان ما قرّر أن يفرّ إلى الأمام، فهو يكاد ينفضح، قال لتابعه: "قالْ خدوا لحمتكن وفلّوا من هون"!. وكم تضايق أبو هاني، حتى قال لأبي شاكر، وهما يخرجان من المحلّ على عجل، وكلّما يلتفت بغضب صوب اللحّام: "يخرب بيتو قدّيشو لئيم، والله والله، من لمّن شفتو ما ارتحتلّو، تحرم عليّي هل ملحمة بعد اليوم"!. وخرجا، أبو هاني تسطع عيناه بجمر الغضب وأبو شاكر يضحك بعبّه.
(الشرف الرفيع)
تشبّثتْ صنّارةُ صيد السمك بأنف الكلب، وزيادة في الطّين بلّة تشبّثت به من الداخل، حملاه، الأبُ وابنُه، إلى مركز طبّ الحيوانات ـ محلّة "باكسلي" ـ منطقة سانت جورج ـ جنوب سيدني. وتولّى الإبنُ مهمّة الشرح، بإعتباره يجيد الإنكليزيّة أحسن من أبيه الذي لا يزال في حال عسر لغوي وإن يفهم أحياناً بعض ما يسمع. وبعدما فهمتْ الممرّضة ـ البيطريّة حالَ الكلب الذي كم تأوّهت له، وقبْلَ إدخاله إلى غرفة العمليّات، طلبتْ روتينيّاً إسم الكلب وإسم عائلته. ومعروف أنّ إسم عائلة الكلب في أستراليا هو ذات إسم عائلة أصحابه، وليس في ذلك أي حرج. وفهمَ الأبُ السؤال. وقالَ لإبنه بصوت منخفض وحذر، وبالعربيّة طبعاً: "اعطيها إسم عيلة حدا غيرنا". ارتبكَ الإبن، فهو لا يرى حرجاً أن يحمل الكلب إسم عائلة أصحابه، ولا يكذب في آن، كما أغلب جيله الذي ينشأ في أستراليا، وبدون أدنى مبالغة. قالَ للسكرتيرة: "ماكس". وأمسك، ونظر إلى أبيه، وأبوه نظر إليه بتوتّر، وقال للممرّضة إسم عائلة ماكس. ولم يمض وقت حتى كان الأبُ والإبنُ، ومعهما الكلب المنشرِح بنجاحِ العمليّة، خارج العيادة، والأب يشدّد على إبنه ويقول: "ولكْ يا مجنون، قلتلّك: قلّها إسم عيلة حدا غيرنا، رحت اعطيتها إسم عيلتنا؟، يعني بعد ناقصنا بالعيله كلب"؟!. وفي رواية، أنّهما، وهذه حالهما، كان الكلب يتشمّم ساقي أحد المارّة. وقال الأب لإبنه وهو يكاد ينهار: "إمسك خيّك يلعن بيّك قبل ما يعضّ الزلمي ويحطّوا صورنا بالجرايد والتلفزيونات وتصير فضيحتنا بجلاجل"!.
(زواج مبكر)
والواقع هو مرّات كثيراً حقّاً أغرب من الخيال، ومثالاً لا حصراً ما حصل في حفل زفاف في قاعة الويستيلاّ ـ ليدكمب ـ جنوب غرب سيدني ـ صاحبها العصامي طوني خطّار ـ حيث "تعثّر" لسان معرّف الزفاف، وعوض أن يقول في ما كان يقول: "وفّق الله العروسين" قال، غفر الله له: "فرَّق اللهُ العروسين"!. وانتبه المدعوون وأهل العروسين، وصحّحوا له، وهو صحّح مدارياً خجلاً. قال خال العروس إنّه يعرف المعرّف خير معرفة، هو نذير شؤم. وتسامح الأهل ونسوا إلاّ خال العروس الذي قال لزوجته: "سجّلي". وانتهى الفرح، وكلٌّ بلغ بيته، وانتقل العروسان الجميلان اليافعان جدّاً إلى شقّتهما. وهما في "خلوتهما الشرعيّة" نظرا إلى الثريّا ولم تكن هي الثريّا التي رغبتْ بها العروس، لهذه خمس "لمبات" والتي هي رغبت بها لها ثلاث، وقالت إنّ أمّ العريس قد فرضت رأيها، قال لها العريس: "أمّكِ هي التي اختارتها"!، قالت له: "أمّك البلهاء هي التي اختارتها"!، قال لها: "أمّكِ هي البلهاء"!، قالت له: "بل أمّك"!، قال لها: "بل أمّكِ"!، قالت: "أمّك"!. واعتزلا حتى الصباح حين خرجت وهو خرج، وهي أخبرتْ وهو فعل مثلها، وصار "قيل وقال"، واختلط الحابل بالنابل، وانقطع حبل الودّ بين الأسرتين. وقال أهلها: "إبنتنا عندنا وإبنكم عندكم"، وقال أهله: "إبننا عندنا وابنتكم عندكم، ولولا إبننا ما عرفنا داركم ولا دخلنا بيتكم ولا رأينا وجوهكم".. إلخ. واستُجيب للعريف، وصدق خال العروس، وانفرط عقد زواج مبكر آخر.
(زلغوطة)
1 ـ "آويها لبّستِك الأبيض طيّه على طيّه \ آويها لبّستِك الأبيض يا نور عينييّ \ آويها اضهري من الدار وقولي بخاطركن \ آويها أنا غريبه وديروا بالكم عليّي" ـ وقلتُ لإبنة عمّي، وهي التي سمعتُ منها هذه "الزلغوطة"، خلال حفل عرس لأقارب في محلّة روكدايل ـ سيدني: "شو غريبه، يا بنت عمّي، وشو ديروا بالكن عليّي؟، خلصنا، بأستراليا الحاكمه.. الملكه"!. وفهمتْ، وقالت وهي تبتسم: "والله يا إبن عمّي كلامك درر"!.
2 ـ "آويها نحنا بيت المسلماني مين يقدر يخاصمنا؟ \ آويها لبّاسين الدهب بروس خناصرنا \ آويها طلبت من ربّ السما ينصرنا \ آويها نصره قويّه تجبر خواطرنا" ـ وقلت لإبنة عمّي، بعدما أنهت الزلغوطة هذه، في حفل زفاف أحد أبناء عمومتنا، وكنت منها سمعتها تردّدها قبل شهر في عرس لأصدقاء من آل "فرج"، وقالت يومها: "آويها نحنا بيت فرج".. إلى آخره "شو القصّة يا بنت العمّ، مين يقدر يخاصمنا، نحنا بيت المسلماني، أو مين يقدر يخاصم بيت فرج"؟. وتذكّرتْ بسرعة عجيبة، وفهمتْ، وقالت وهي تضحك: "يا إبن عمّي مع السوق بنسوق، منين بدّي جيب زلاغيط لكلّ عرس"!.
(موهمّد)
اشتهرتْ بين الأستراليين اللبنانيين ـ ستينات وسبعينات القرن العشرين ـ أسماء عربيّة لا صفة دينيّة أو مذهبيّة لها، ومع تراجع قوى اليسار والعلمانيّة في الوطن الأمّ لبنان، ومع تقدّم الدِّين في النصف الثاني من الثمانينات، أخذتْ هذه الأسماء بالتلاشي، لتحلّ محلّها أسماء من وحي ديني خالص، وأشهرها، وبلا منازع، إسم محمّد. وفيما أنا أعمل في محطّة سيدنهام للقطارات ـ سيدني ـ وإذ صبيّة أوروبيّة تسألني عن الرصيف الذي ينطلق القطار منه إلى محلّة "كرونيللا" الساحليّة. أعطيتها الجواب اليقين. وإلى حين مجيء القطار تحادثنا. وعلمتُ منها أنّها مِنْ أصل إيرلندي، وهي علمت أنّي من أصل لبناني، وهي معلِّمة في مدرسة "بالمور" الإبتدائيّة، و"بالمور" هي من الضواحي القريبة، ويكثر فيها اللبنانيّون الشماليّون، وخصوصاً من مدينة طرابلس وضواحيها. وطرابلس، وإلى بدايات القرن العشرين، كانت تُعرف بإسم طرابلس الشام، أي قبل فصلها عن سوريا ـ الشام ـ وضمِّها إلى دولة لبنان الكبير. قالت كأنّما تذكّرتْ: "لديّ تلميذ من أصل لبناني سيكون له شأن"!. فرِحتُ بما سمعتُ وسألتُها عن إسمه فربّما أعرف أهله. قالتْ إنّ إسمه الأوّل هو "مُوهمّد" ـ محمّد. ثمّ وهي في حال من يتذكّر أكثر، وبدهشة، قالت: "أوه"!. ووضعتْ يدها على صدرها وأردفت: "ماي غاد"! ـ يا إلهي!. وقالت: لديّ خمسة أولاد ـ "فايف بويز" ـ في صفّي، وجميعهم من أصل لبناني، وفقط الآن انتبهت، جميعهم إسمهم الأوّل هو: "موهمّد"!.
(إتّحاد جمعيّات)
وصل إلى سيدني قنصل لبنان العام الجديد، وهو يستقبل في دارة القنصليّة اللبنانيّة مرحّبين به، وجلّهم من ممثِّلي الجمعيّات القرويّة. وفي اليوم الأوّل استقبلَ من ضمن الذين استقبلهم وفداً مِنْ ثلاثة أشخاص هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق جمعيّة بلدة "كذا"، وكانت له معهم دردشات ودّية. وفي اليوم التّالي استقبل من ضمن الذين استقبلهم وفداً يمثّل جمعيّة أبناء بلدة "كذا" ذاتها، ولكنّ الوفد مؤلّف مِنْ ثلاثة هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق غير السابقين. وإذا عُرف السبب بطُل العجب، وزال عجب القنصل العام عندما أوضحوا أنّ جمعيّة أبناء "كذا" السابقة هي جمعيّة أبناء "كذا" التحتا، وهذه جمعيّة أبناء "كذا" الفوقا، وكانت له معهم دردشات لا تقلّ وديّة. وفي اليوم الثالث رحّب بوفدٍ مؤلَّف مِنْ ثلاثة هم رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق، وطرق أذنَيه إسم جمعيّة "كذا" ذاتها، أخذته الدهشة، استأذن، انفرد بموظّف القنصليّة القديم وقال: "أوّل أمس جمعيّة "كذا" التحتا، وبالأمس جمعيّة "كذا" الفوقا، واليوم جمعيّة "كذا" ماذا؟!. قالَ الموظّف القديم مبتسماً: "هؤلاء، يا سعادة القنصل العام، هم ممثّلوا "إتّحاد جمعيّات بلدة "كذا". وكانت لسعادة القنصل العام الجديد معهم دردشات لا تقلّ، أيضاً وأيضاً، وديّة!.
(عصفوريّة باراماتا)
كلّ ما يلفت نظره سيتعلّمه، ولكن عوض أن يرسخ فيه سيهمله. أبواه يلمّحان له بوجوب الثبات، وأمّه تقول: "الطيز النقّاله مش شغّاله"!. وأخيراً عملا أنّهما "صمٌّ بكمٌ" ما دام يعمل وليست له إهتمامات "إنحرافيّة". ليرجع إلى البيت، في محلّة بانكسيا ـ سيدني، ومعه طبلة. و"خذوا" على "ضم ضم تك تك، ضم ضم أس تك، ضم ضم تك تك". أو "تك تك ضم، أس تك، تك تك تك، تك ضم". شهراً. وما أن تأفّف الوالدان حتى رجع ومعه منجيرة. و"خذوا على صفير". شهراً. ليرجع ومعه "غيتار". و"خذوا على طنين". وبعد 3 أسابيع تخلّى عن الغيتار لصالح الأوكارديون، وقال إنّه لزميله، فيما زميلُه إستعار الغيتار. وسمع الأبوان شقيقته تسأله عن سبب هذا التبادل؟. وسمعاه يقول إنّه وأصدقاء قرّروا عمل فرقة موسيقيّة، وقد رستْ عليه قرعة أن يكون "الغيتاريست"، فيما زميله عنده ألأوكّارديون فيكون "الأوكّارديونيست"، ورفض "الأوكّارديونيست" أن يكون "الأوكّارديونيست"، ولكي لا تفرط الفرقة اقترح رئيسها أن "الأوكّارديونيست" يصير "غيتاريست"، و"الغيتاريست" يصير "أوكارديونيست". ورجع ومعه "كمان". وقال لشقيقته التي سألته فيما تطوي أمّه الغسيل إنّه رفض الأوكارديون وحمل الكمان، وهو الآن "كمانيست"، والكمانيست أهم من الأوكّارديونيست والغيتاريست معاً. وخذوا على "زيق زيق، ميق ميق". وقالت الأمّ: "الصبي جنّ"، وقال لها الأب: "وانشاء الله بتجنّي معه".
وكان الإبن قد رجع إلى البيت بالكمان ظهيرة يوم السبت، وفي صبيحة يوم الأحد خرج الأب ورجع بعد ساعتين لكي يرى ما طيّر عقله، ولو أنّ أحداً شاء أن "يعملها" معه لإتّصل بعصفوريّة "باراماتا" لكي تحمله عنوة. اصطدم عند مدخل البيت بساتر رملي، وعدد من قضبان الحديد منها الطويل ومنها القصير، وصفائح ذات أحجام من بعضها ينزّ زيت سيّارات ومن بعضها ينزّ زيت زيتون أو نباتي. ولم يفكّر ليؤكّد أنّها لإبنه الذي لم يكن حاضراً، ولكنّه سيرجع. ونظر صوب السماء وقال: "يا ربّ، مرّه.. (وأخذ يضرب الهواء بكفّيه عند خاصرته إشارةً إلى العزف على الطبلة) ومرّه.. (وأخذ يحرّك أصابعه أمام فمه كأنّه يعزف على المنجيرة) ومرّه.. (ومدّ يده اليسرى وراح ينقر الهواء بموازاتها كأنّما يعزف على الغيتار) ومرّه.. (ونفخ صدره، وجمع قبضتيه وباعد بينهما وقرّبهما، وفعل ذلك تترى، إشارةً إلى العزف على الأوكّارديون) وهلّق شو؟!.. (واستعرض عضلاته) وقال: "كمال أجسام؟! رفْع أثقال"؟!.
وفيما المارّة يتجنّبونه، مذعورين من حركاته، وصل الإبن، وفي آن أطلّت الأمّ واقفة عند الباب. وصمتَ الأبُ ثوان معدودات وقال بهدوء وصبر أيّوب: "والله يا إبني لا إعتراض منّي مبدئيّاً، بس والله أنا خوفان منّك بكرا على بنات الناس، يوم تحبّ البيضا، وتاني يوم تحبّ السودا، وتالت يوم تغيّر كمان وتحبّ الصفرا أو الحمرا أو المزركشه. والله يا إبني حرام، ما بيصير هيك، دخيلك يا إبني ارحمني وإرحم المسكينه إمّك".
وكانت الأمّ عند الباب تنظر وتسمع، ويد فوق الثانية فوق بطنها، وتقول: "يا حبيبي، يا إمّي، إسمع، الله يرضى عليك، كلام بيّك"!.
(الغرلة)
أنجزَ الطبيبُ الأستراليّ، وهو سوريّ الأصل، مهمّته على أكمل وجه، وأخيراً أخذ الغرلةَ بمِلقط، ووضعَها في كيس نايلون صغير، قائلاً في آن للأبِ والأمِّ المنشرِحَين، وهما من أصل لبناني: "اعلما أنّ هذه القطعة هي من الجسم، ولها حرمة، ادفناها في التراب، وازرعا فوقها نبتة خيار ستنمو وستغدو شجرة موز"!.
ظهراً، اتّصلت أمّ الصبي هاتفيّاً بشقيقة لها وقصّتْ عليها زعم الطبيب وسألتها: "كيف نبتة خيار تنمو وتغدو شجرة موز"؟!. وعَصْراً رجعَ زوجُ الأخت مِنْ عملِه، قصّتْ حكايةَ الغرلة ونبتة الخيار وشجرة الموز، وانقلبَ على ظهرِه ضحكاً، وخصوصاً بعدما قالت، وهي يكاد يغشى عليها مِنَ الضحك أيضاً، وفي بالِها أنّ ما يجول في خاطر زوجها هو عين ما تهجس هي به: "فعلاً إنّه طبيب حمار".
وفي اليوم التالي التقى زوجُ الأخت صديقاً من الجالية السوريّة، ومن مدينة حمص تحديداً، والحماصنة مشهورون، زوراً طبعاً، بالسذاجة، وقصّ عليه، وضحكا معاً. وقصّ لحماتِه التي كانت ضيفة عليه في مساء اليوم ذاته، وهي علمت بأمرِ الطبيب وغرلةِ حفيدِها ونبتةِ الخيار وشجرةِ الموز، وقال إنّ صديقَه الحمصي يؤكّد أن الطبيب "يمزح". قالت، بعدما شهقت: "والله كلام صديقك الحمصي صحيح، والطبيب، أنا أعرفه، حمصي أيضاً، آه ما أذكى الحماصنه، يفهمون على بعضهم"!. وقصّ زوج الأخت لصديقه الحمصي استنتاج حماته، فقال الصديق الحمصي أنّه ليته يعرف من هم الحماصنة فعلاً، هم الحماصنة، أم اللبنانيّون هم الحماصنة؟.
ـ الغُرْلَةُ : جلدةُ الصبي التي تُقطع في الخِتان، والجمع: غُرَل!.
(صرصور مالبورن)
قرع بابَ بيت إبن عمّه في مدينة مالبورن، وهو بصحبة ضيف من سيدني يدعى جميل خليل، وكما كلّما التقى لبنانيّان تكون السياسة ثالثهما سرعان ما انزلق الحديث إلى السياسة. وارتفعت وتيرة الصوت بين إبنيّ العمّ، وكان الضيف بغاية الأدب، ويتجنّب ما يستطيع أن يكون له رأي، وليس من دون سبب. أخيراً قال صاحب البيت: "بدنا ندبحهن، وزغيرهن قبل كبيرهن". وقف ابن عمّه، قصد المطبخ، فتح جاروراً، رفع أكبر سكّين وقدّمها لإبن عمّه وهو يقول له: "تفضّلْ، قومْ.. بلِّشْ". وفي اليوم التالي التقى صاحب البيت بإبن عمّه في الشارع وقال له: "ولو يا إبن عمّي، لمّحلي، اعطيني إشاره إنّو صديقك مش من جماعتنا، والله دبت بتيابي وصرت قدّ الصرصور".
(وا ديباه)
أكبر تجمّع للأستراليين مِنْ أصل جنوبي لبناني يتواجد في منطقة "سانت جورج" ـ جنوب سيدني، وإلى سنة 1979 لم تشهد المنطقة إحتفاءً كبيراً واحداً بمناسبة عاشوراء التي يخلّد ذكراها المسلمون الشيعة الإماميّة سنويّاً أينما كانوا حول العالم. ووصلتْ موجاتُ الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أخيراً إلى سواحل شبه القارّة الأستراليّة، وبدأ بعض أبناء المذهب في مجالس عاشورائيّة، وعند محطّةٍ، يلقون على استحياء، وبغير إنتظام، أكفّهم على صدورهم. وردَّ البعضُ سبب ذلك إلى ضعفٍ في الإيمان، وكانت دعوة إلى التيقّن، ولتقويةِ الإيمان، وصار بعضُ الشبّان يتشكّل حلقات، وترتفع القبضات، ويلطمون صدورهم بإيقاعٍ متفنّن. وأخيراً تشكّلتْ حلقةٌ نسائيّة عملت ما يعمله ذكور ويندبن: "وا حُسيناه". وظنّت طفلة بمعيّة أمّها أن النسوة يغنّين. وتسلّلتْ إلى وسطهنّ، وأفردت ذراعيها الملائكيّتين بفرح ورقصت. وابتسم كلُّ مَنْ رأى، ما أحرج الأمّ التي قامت إلى طفلتها وأجلستْها إلى جوارِها وهي تقول لها: "اقعدي حدّي، فضحتينا". ولكنّ الطفلة لم تكتف، ولكي تزيد الطين بلّة، كما يُقال، قالت بصوتها الملائكي أيضاً: "ليش كلّن "واحسين" ـ و"حُسين" هو عين إسم أبيها ـ "مش "وا ديبه"؟ ـ عين إسم أمّها!.
(زغرودة بيروت)
لا إشارات سير ولا شرطة مرور، والسيّارات كلّ واحدة هي في مؤخّرة زميلتها. واشتعلت الزمامير. والأستراليّة ـ اللبنانيّة الأصل تزور وطنها الأمّ لبنان لأوّل مرّة منذ أكثر من عقدين. وهي في السيّارة، من مطار بيروت إلى محلّة زقاق البلاط، وجدتْ في الزمامير عرساً من أعراس لبنان الكبير قبل الحرب الأهليّة المشؤومة سنة 1975. أطلّت من شبّاك السيّارة إلى نصفها، ورفعت كفّها أمام فمها، وصدحت مزغردة زغرودة يُقال في بلاد مصر الحبيبة أنّها: "أطول من الطريق الصحراوي"!.
(أُوكّي - OKAY)
ارتَكبتْ إسرائيل مجزرة في بلدة كونين ـ جنوب لبنان ـ الشريط الحدوديّ مع فلسطين المحتلّة ـ قضى فيها أكثر من 37 شهيداً. وبعد سنوات جرتْ إنتخابات نيابيّة في ولاية نيو ساوث ويلز، وهي إحدى أكبر الولايات الأستراليّة سكّاناً، وتضمّ ثلثي أبناء الجالية اللبنانيّة والعربيّة عموماً، وفازَ حزب العمّال الأسترالي، وفاز السيِّد باري أنزورث، رئيس الحزب، بمقعد روكدايل ـ سانت جورج ـ جنوب سيدني، متفوّقاً على خصمه، زعيم حزب الأحرار، بفارق مئات الأصوات فقط، وأصبحَ رئيس وزراء ولاية يزيد عدد سكّانها على 8 مليون نسمة من أصل 20 مليون نسمة ـ مجمل عدد سكّان شبه القارّة الأستراليّة التي تزيد مساحتها على 8 مليون كلم مربّع.
وكان السيِّد باري أنزورث قد رأى الحاجّة أمَّ شوقي مهنّا مسلماني تحمل ركوة القهوة اللبنانيّة الكبيرة وتوزّع على أنصار حزب العمّال وعلى مَن هي تشاء عند صندوق الإقتراع، وأعرب عن فرحه بذلك، ورأى كيف أبناءها يتفانون من أجل فوزه وينتقلون من مركز إقتراع إلى آخر. وجرى السعي عنده في ما بعد لإعطاء بعض أبناء بلدة كونين المنكوبة في لبنان تأشيرات هجرة إنسانيّة ـ إستثنائيّة إلى أستراليا.
والسيِّد أنزورث لم ينس ولا ينسى ولا يتناسى. وبمعيّة الوزير غاري بانش، صديق المحامي شوكت مسلماني ـ عضو بلديّة روكدايل ورئيسها في ما بعد، ثمّ نائباً في المجلس التشريعي للولاية، وذاته هو إبن الحاجّة أم شوقي ذاتها ـ وبمساعدة كريمة من المعنيين فيدراليّاً، ومِنَ السفير الأسترالي في لبنان السيّد ساندي فوكس، وفي حالة إستثنائيّة نادرة حقّاً، حازت التأشيرات 16 عائلة كونينيّة بكاملها، وأغلبها كبيرة ـ اللهم زد وبارك ـ وبكفالة الكونينيين الأستراليين الذين منهم الحاج شاهر علي مسلماني "أبو شوقي".
ولكنّ الجنسيّة الأستراليّة لا يحوزها المهاجِر إلى أستراليا إلاّ بعدَ إقامة تزيد على سنتين، وبعدَ جلسة أسئلة وأجوبة سابقة على حفل تكريم يُقام خصِّيصاً للمناسبة. واستحقَّ موعِد جلسة مَن بالكاد تعلّم جملتين باللغة الإنكليزيّة، وهو مكفول من الحاج "أبو شوقي"، وكان لا بدّ أن يرافقه مترجم. وسأله الموظّف الحكومي المختصّ خلال الجلسة إذا يحبّ أستراليا؟، أجاب بالعربيّة، وترك للمترجم أن يترجم: "أحبُّها حبّاً جمّاً". وسأله إذا تعرّضتْ أستراليا لعدوان خارجي هل هو مستعدّ للدفاع عنها؟، أجاب أنّه وزوجته وأطفاله سيكونون، بعون الله تعالى، في "أوّل الجبهة". وابتسم المترجم. وابتسم الموظّف الحكومي الذي سأل السؤال الثالث والأخير، كما قال: "ما إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"؟. وخيّل لحبيبنا أنّه فهم السؤال، لم ينتظر الترجمة لكي يُثبِتْ أيضاً أنّه تعلّمَ من الإنكليزيّة الكثير، وإن يظلّ بحاجة إلى مترجم. وقال هكذا: "أبو شاكي موسوليني ماني". لم يفهم الموظّف الحكومي، نظر إلى المترجم وسأله عمّا سمع؟. استدرك المترجم، وقد كان نبيهاً، وقال لإبن جنسه: "إنّه لا يسألك عن إسم كفيلك إلى أستراليا أبو شوقي مسلماني بل عن إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"!. قال مرتبكاً: "آه"!. وبسرعة رفع إصبعه، وعوض "بوب هوك"، وهو الإسم، قال "هوكبوب". وابتسم الموظّف الحكوميّ، وربّما كتم ضحكة، ونظر أمامه إلى ورقة على الطاولة، وحمل الختم الكبير، وقال وهو يهوي به: "OKAY".
(أسماء الألوان)
قال لإبنة شقيقته أن لا تعاند أمّها، وسيعلّمها أسماءَ الألوان. وسمعت الكلام وهو علّمها أسماء الألوان، ومثالاً اللون الأخضر: هو "برّي" ـ نسبة للأستاذ نبيه برّي رئيس المجلس النيابي اللبناني ورئيس حركة أمل في آن التي رايتها لونها أخضر. اللون البرتقالي: هو "عون" ـ نسبة إلى رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة السابق ومؤسّس التيار الوطني الحرّ الجنرال ميشال عون ورايته لونها برتقالي. اللون الأزرق: هو "حريري" ـ نسبة إلى الشيخ سعد الدين الحريري رئيس الوزراء اللبناني السابق أيضاً وزعيم تيّار المستقبل الذي رايته لونها أزرق. اللون الأصفر: هو "نصرالله" ـ نسبة إلى السيّد حسن نصرالله قائد حزب الله اللبناني الذي رايته لونها أصفر. وفيما كانت مع أمِّها في محلِّ سمانة في محلّة بانكستاون ـ سيدني وهو لسيّدة لبنانيّة الأصل ومعلوم هواها القوّاتي ـ حزب القوّات اللبنانيّة المخاصم للتيّار الوطني الحرّ ـ رأت عصفوراً في القفص لونه برتقالي، قالت لأمِّها بفرح، ومشيرة بإصبعها الصغير إلى العصفور: "عون"!. وانتبهت القوّاتيّة والتفتتْ إلى رفيقتها في الهوى السياسي وقالت، وهي تبتسم مكراً نسائيّاً محبّباً: "شو، مبيّن غيّرتي"؟! ـ أي تركتِ القوّات والتحقتِ بالتيّار؟!. ابتسمَتِ الأمُّ ابتسامتها الذكيّة، وقالت ببديهةٍ هي معروفة بها: "متل ما بتعرفي، كلّ بيت بهل أيّام صار مقسوم على نفسُه، بنتي إلها رأي وأنا إلي رأي، عملنا وثيقة تفاهم ـ إشارة إلى وثيقة التفاهم بين القوّات والتيّار ـ هيّي بتحترم رأيي وأنا بحترم رأيها"!.
(يا مار شربل)
ونحن في السيّارة إلى ذكرى "أربعين" في كنيسة مار شربل ـ بانشبول ـ سيدني استشعرتْ زوجتي حنان الفنج مسلماني ألماً يلّم بي أكتمُه من دون جدوى.
ونحن في باحة الكنيسة لاحظتْ، وهي المرّة الثانية بحياتها تدخل كنيسة، وتجد فخراً أنّها تفعل، كيف مسيحيّات من أعمار مختلفة كلّما يقفن قبالة تمثال القدّيس مار شربل العالي في باحة الكنيسة ويردّدن أمامه ما لم تتبيّنه.
وواحدة وقفت حتى أخيراً مسحت دموعاً عن خدّيها فيما تتوجّه إلى مدخل الكنيسة. ووجدتْ زوجتي ذاتها تتوجّه صوب القدّيس وتواجهه، ثمّ ترجع إليّ حيث أقتعد كرسيّاً بجوار مدخل الكنيسة.
سألتُها عن أمرها وقد قرأت في وجهها كلاماً؟، قالت إنّها توجّهت إلى مار شربل بالدعاء كي أبرأ ممّا بي، ومبتسماً، للمفارقة، فماذا تطلب مسلمة سنيّة من مسيحي ماروني؟، سألتُها عن ماذا قالت؟، قالت: "قِلتْ يا مارْ شربلْ، بِجاه النبي محمّد إشفيلي جوزي" ـ زوجي!. فرِحتُ بما سمعت وقلتُ لها: "وبالكنيسهْ تمثالْ لستْنا مريم العذرا، دخيلك، ادْعيلي عندها بِجاهْ ستْنا فاطمةْ"!.
(أستراليا أَمْ فلسطين؟)
"أم علي"، شقيقتي "أشواق مسلماني حمّود" لا تحتمل أن يطول شعر رأسي، وإذا أنا في زيارة لها، ورأت بي ما لا يجدر، قولوا أوامرها ملكيّة. تحضر الكرسي، و"يتكتك" المقصّ أو "تجلخه" بالمشط الأسود الصغير. وأنا أطيع. ولدى "أم علي" أخبار، وستقصّها عليّ، وأنا تحت رحمتها. كلّ كم "قَصّة" قِصّة، وكلّ "خبرياتها" صادقة وحرفيّة، فما على لسانها هو عين ما في قلبها الطاهر وعقلها النزيه وتجرّدها التامّ، حتى تحيّرني أهي طيّبة أم حكيمة؟. وإذا كفلتْ روحاً قدّمتْها على روحها، مثلما تفعل، مثالاً لا حصراً، مع هرّة "بارجيان كات"، جلبتها قبل سنتين بعد حادث مؤسف أودى بحياة "عينطورا" القطّ ـ الجمل: لضخامته، وكان كلّ أهل البيت في خدمته. و"خلّفت" الهرّة، وأفردت لها "أم علي" غرفة، وزوّدتها بكلّ ما يُسرّ حتى تمنّيت لو ذاتي إبن شقيقتي، عساني أحظى بمثل هذا الحبّ. ولكن أحياناً، ولشأن خاصّ جدّاً، لا بدّ للهرّة أن تقف قرب الباب لتخرج ثمّ تعود، ولا أحد يعرف كيف تجد طريقاً إلى الحديقة الخلفيّة لبيت الجيران، الذي يفصله عن بيت "أم علي" حاجز معدني "كولاربوند" جميل، وقد شيّدته أم علي بمال بيتها الخاصّ، علماً أن القانون الأسترالي يقضي أن تكون كلفته مناصفة مع الجار، والجار ذاته رجل يهودي محترم، تقول "أم علي" إنّه أستاذ علم نفس، ولكنّ زوجته، قولوا، مَن في الأرض يمكن أن يحتملها غيره؟. تجنّ إذا رأت الهرّة في حديقة منزلها، وهي التي أصلاً نظّفتها لها من الفئران. حتى رجعت "أم علي" إلى البيت بعد الظهر لتجد عمّالاً يشيدون جداراً حجريّاً بين البيتين "يغمّ على القلب"، كما قالت، وأعلى من حاجز "الكولاربوند"، وطبعاً من دون فائدة قالت لها أم علي بالإنكليزيّة: "أيّتها السيّدة، نحن هنا في أستراليا ولسنا في فلسطين" ـ إشارة إلى الجدار العازل الذي شيّده الصهاينة في فلسطين المحتلّة ـ وقال زوج الجارة، ومن دون أي قدرة على تغيير واقع الحال ورغبة زوجته أيضاً: "أينما أذهب، يا إلهي، لا بدّ أن تحرجني وتختلق لي كلّ مشاكل الأرض"!.
Shawkimoselmani1957@gmail.com